طارق البشري ... أن يكون التاريخ قاضيًا

بقلم القاضي/ وليد مكّي

· اوراق ومقالات

 

"وجودي أن أغيب عن وجودي"

 

كان طارق البشري كثيرًا ما يردد هذه الجملة حينما يُسأل عن أمر يخصه. وهو بذلك يرسم صورةً تظنها مبسطة عن فكره كقاضٍ ومؤرخ ومفكر. يبدو البشري لأول وهلة سهل المنال بالنظر إلى ما تبدو عليه طريقة كلامه البسيطة المباشرة المرتبة، أو حتى أسلوب كتابته الرائق. غير أن كل ذلك لم يكن سوى حيلة، نعم حيلة منه كي يدخلك في عوالم أفكاره التي تكتشف بعد برهة يسيرة أنها متشابكة، معقدة، ولا يمكن لك الفكاك من تأثيرها.

وطارق البشري من مواليد حي الحلمية بالعاصمة المصرية القاهرة، وأصوله ترجع إلى قرية (محلة بشر) في مركز (شبرا خيت) محافظة البحيرة، بدلتا مصر. ولهذه القرية انتسبت عائلته العريقة التي قضى من بدايات طفولته حتى تخرجه في كلية الحقوق متنقلًا بين أفرادها، بين (العمامة والطربوش)، وبين (المدينة والريف) على حد وصفه*. والعمامة المقصودة هي عمامة الأزهر والطربوش المعني هو طربوش الأفندية. كان جده لأبيه شيخًا للأزهر، وسبعة من أعمامه تخرجوا في الأزهر وعملوا به، وكذلك جده لأمه. أما أبوه -وهو أصغر إخوته- فقد كان له الطربوش إذ كان أول من التحق من أسرتهم بالمدارس الحديثة حتى تخرج في كلية الحقوق والتحق بالقضاء الأهلي، ثم بقية أولاد أعمامه الذين سلكوا المدارس الحديثة مثل والده في مهن ووظائف مختلفة.

ولعل هذه النشأة المتنوعة ما بين الشرعي والعلمي، والتراثي والحداثي، مع ما عاصره من أحداث تمس الوطن بأسره إبان الاحتلال الانجليزي لمصر وفترة الملكية وبدايات تشكل الجمهورية وعهودها اللاحقة، لعل ذلك كله هو ما رسم لهذا الرجل شخصيته القانونية والفكرية، فسار في بدايات حياته الفكرية محسوبًا على اليسار، ثم انقلب إلى اليمين، وما لبث أن صاغ مفاهيمه التي تدور حول وجود أرضية مشتركة تسع جميع أبناء الوطن دون غلو في المحافظة أو إفراط بسبب التحديث، وسار على هذا النهج الذي راوح فيه بين (العمامة والطربوش) طيلة حياته. وهذا ما انعكس –بالطبع- على عقليته القانونية كقاضٍ ومفكر قانوني من طراز رفيع.

ولعل ذلك هو الذي شكّل نظرته نحو النص. فهو يحترم النص ويبجله ويعطي له قدره باعتباره واحدًا من قضاة مجلس الدولة، إذ كان النائب الأول لرئيسه ورئيسًا للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع به عدة سنوات. ولا يمكن للمتأمل في منجزات الرجل القانونية أن يتجاوز تأثير دراسته للتاريخ، وبمعنى أدق: تاريخ دراسته ومعاصرته للتاريخ. كان الرجل ينظر بإكبار وتقدير واضح ظاهر للنص، غير أن هذه النظرة تأتي في إطار تاريخ المسألة التي يعالجها النص ذاته. والتاريخ لديه يشمل كلَّ شيء من الممكن أن يدخل في حوزة التأثير على النص فيكون مدعاةً لإصداره أو إلغائه من بعد أو إطارًا لقواعده أو تأسيسًا لفهمه وسبر فلسفته.

ولا أدل على ذلك من إجابته في إحدى اللقاءات التلفزيونية * عن علة تعديل نص المادة 75 من الدستور المصري باشتراطها الجنسيّة مرشّح الرئاسة وزوجته وأبويه، فأجاب البشري عن ذلك في هذا اللقاء، معتصمًا – وبهدوئه المعتاد الذي يميز المفكرين- في بداية ما قاله بوجود سوابق قضائية لها طابعٌ من الإلزام والتقدير تحدثت عن هذه الاشتراطات. وهذا ما عنيتُه حينما قلت إن الرجل يقيم فكرته ويعضدها ويبسط لها بالشرح والبيان مراعيًا تاريخها، إذ يرتسم في ذهنه ذلك الحاجز المهم من نصوص القانون السابقة أو أحكام القضاء الماضية. وهو في هذه العملية يبادل بين الحمايتين، حماية النص بالتاريخ، وحماية التاريخ بالنص.

وفكرة الحمايات المتبادلة تلك مارسها البشري متمترسًا خلف السوابق القضائية في الفتوى الصادرة عن الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة المصري عام 1994 * والتي أثارت كثيرًا من الجدل بشأنها إذ أقر البشري للأزهر بسلطة رقابية على المصنفات السمعية والبصرية حال تعديها على قيم الإسلام باعتبار أن الأخيرة مكون من مكونات النظام العام والآداب المعنية بحماية القانون. وفي هذه الفتوى سلك البشري كذلك مسلكه الذي اعتاده في تسويغ فكرته، فراح بداءة يستعرض النصوص المنظمة للمسألة تنظيمًا مباشرًا وغير مباشر، وفي ربط سلس ذهب يستعرض المراحل التاريخية التي مرت على النص الشهير دستوريًا فيما يتعلق بأن "دين الدولة هو الإسلام"، واعتبر رسوخ هذا النص رغم تغير الأنظمة وتبدلها من ملكي إلى جمهوري ومن حزبي إلى رئاسي انتصارًا كاسحًا له، وإذ إن الأزهر هو الحارس لقيم الإسلام حسبما تواترت على ذلك القوانين التي وُضعت له، والتي استعرض تاريخها كذلك مجريًا عليها منهجه في فهم النص. وانتهى إلى نتيجة مفادها: أنه لما كان ذلك، وكان قانون حماية المصنفات قد نص على وجوب ألا تكون المصنفات المجازة مخالفة للنظام العام والآداب، فقد أعطى الحق للأزهر في أن يكون له القول الفصل فيما يتعلق بالمصنفات التي تتعرض للإسلام أو تتقاطع مع قيمه، شريطة أن يكون ذلك في إطار من صاحب قرار الإحالة وهو وزارة الثقافة كما اشترط نص القانون.

في هذه المحاولة الفقهية من البشري، لم يعلِ هنالك قانونًا على قانونٍ آخر، إنما حاول استنباط الفسلفة الجامعة لكل هذه التشريعات التي استعرضها في إطار عالٍ يسمى الدستور.

وذات الأمر سار على منهاجه البشري حينما أصدر أول حكمٍ قضائي يمنع إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري. وأهمية هذا الحكم تكمن في أمرين، أما الأول فيتعلق بصدوره في ظل سريان أحكام الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية والتي كانت تخول لرئيس الجمهورية متى أعلنت حالة الطوارئ، أن يحيل إلى القضاء العسكري أيًا من الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر. والأمر الثاني فمداره على عدم سبق هذا الحكم بأيٍ من السوابق القضائية التي تنحو نحوه أو حتى تمهد له السبيل نحو تقرير هذا المبدأ الجديد. بل العكس هو الصحيح؛ إذ تواترت أحكام القضاء في هذا الشأن على رفض الدعاوى المتعلقة بإلغاء قرارات إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية. وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن البشري قد فقد مقومًا رئيسيًا في منظومته الفكرية القضائية، وهو المتعلق بأسانيده التاريخية عند بحث المسألة كما مر سرده عند تعرضه لتعديل المادة 75 من الدستور المصري عقب يناير 2011، وكذلك عند تعرضه لمسألة رقابة الأزهر على المصنفات ذات الصلة بالإسلام. لكن الرجل يتلمس منهجه التاريخي هذه المرة من داخل نصوص المواد مبرزًا دور الدستور ومفاهيمه في تحديد إطار هذه الفقرة من قانون الأحكام العسكرية.

وهو ما ظهر فيما ضمنّه البشري الذي كان يترأس آنذاك محكمة القضاء الإداري في مصر حكمه في هذه المسألة فقال:

(إن هذه المحكمة لا تملك إلا أن تستهدي بفهمها للفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية، والتي تخول لرئيس الجمهورية سلطة إحالة المدنيين للمحاكمة العسكرية، في ضوء مناهج التفسير التي تعين في تبيّن دلالة اللفظ، وفي ضوء المعاني المصطلح عليها سواء في الفقه أو بالاستنباط من ألفاظ النصوص أو الاستقراء من الاستخدامات التشريعية وفي ضوء تبني معايير الضبط الموضوعي الذي تقوم عليه ولاية القضاء، وفي ضوء ما تقوم عليه فكرة القاضي الطبيعي من أسس وأركان)

لئن كان التاريخ، وهو المنهاج المفضل لدى البشري – قد أعوزه حال نظر هذه الدعوى، بل كان مخالفًا للعقيدة التي استقرت في وجدانه كقاضٍ، إلا أنه استعاض عنه بتوسيع زاوية النظر للنص الحاكم للمسألة، مستعينًا كما قال بمناهج التفسير، والمصطلحات المتفق عليها فقهًا وقضاءً، مستدعيًا فكرةً تحيط بكل هذه الدلالات؛ ألا وهي فكرة القاضي الطبيعي التي من أهم أسسه أن يحاكم المرء أمام قاضيه لا غير. وكلُ هذه الأمور إذا أمعنا النظر فيها تمت لتاريخ تطور القانون بصلة، التاريخ إذن مرةً أخرى.

وكأن الرجل أراد إزالة أي لبس قد يثور حول نظرته تلك لمحاكمة المدنيين عسكريًا، ومحاولة البعض إظهارها كما لو كانت مماحكة سياسية، فراح يبين أسس عقيدته تلك من الناحية القانونية فحسب؛ فقال:

(والأمر هنا ليس أمر قضية بعينها ولا دعوى بخصوصها، بل هو أمر يتعلق بأسس التنظيم القضائي ومنهج الضبط للولاية القضائية التي تقوم سندًا لسيادة القانون، وبقدر ما تتأكد هذه المعاني وتقوى على استيعاب النوازل والطوارئ بقدر ما تتوطد أركان الدولة ويعظم الاستقرار في المجتمع).

في عدة أسطر قليلة أمكن للرجل – كما نوهتُ في صدر هذا المقال – ربط المسألة الضيقة المحدودة بأكثر من إطار واسع وشامل، مفاده: أن هذه المسالة التي ربما تبدو غير مركزية، إنما نظر إليها كقاض باعتبارها متعلقةً بولاية وتنظيم القضاء، وبما ورائه من سيادة القانون، وتثبيت أركان الدولة، وحماية الشعب والمجتمع. ومن زاوية أخرى يمكن لنا القول إن هذا النظر من البشري يتشكل به مفهوم استقلال الوطن عنده. هذا الوطن الذي شغله أيما شغل، وحاول جاهدًا الغوص في فهم بنيته وتوازناته، مقدمًا ومدللًا على رؤيته الجامعة.

وفي هذه المسألة –أعني إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية - فقد صدر حكم محكمة القضاء الإداري برئاسة البشري، مانعًا إحالة المدنيين إلى المحاكمة العسكرية، ليحدث دويًا في أوساط المشتغلين في القانون والقضاء، ويقابل بردات فعل واسعة من قبل السلطة التنفيذية، وقالت فيه المحكمة الإدارية العليا كلمتها –عند الطعن عليه- بإلغائه والنظر إلى النص نظرةً مجردة عن كل اعتبار، وحينما قدمت الحكومة للمحكمة الدستورية العليا وقتها طلب تفسير بشأن الفقرة المعنية من نص القانون، فقد قررت المحكمة الدستورية أن جملة (أيًا من الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات أو أي قانون آخر) عبارة عامة مجردة لا يمكن تضييق مؤداها تحت أي نوعٍ من أنواع التفسير أو الربط.

قال الرجل كلمته إذًا، وقالت المحكمتان الإدارية والدستورية كلمتهما، والرجل يسير في طريقه الذي اختطه لنفسه شبيهًا بالماء المتدفق عبر نهر، بلا أمواج أو ضوضاء. كانت محاولته تشبه قائدًا لمركب يجدف ضد التيار، لكن مرت الأيام، وبعد مرور ما يقرب من عشرين عامًا من تاريخ صدور حكم البشري، يجري إلغاء الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية، بما مؤداه عدم جواز إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية، لتنتصر رؤية القاضي الثاقبة في استشراف المستقبل، أو تصور ما يُفترض أن يكون عليه الوطن ذي المؤسسات المستقلة، لو يعي الفاهمون!

ومن المعروف عن البشري – كما قال هو عن نفسه في أحد اللقاءات التلفزيونية – أنه كان خجولًا، وهذا الخجل مرده إلى نظرته إلى نفسه، فهو يكاد لا يراها، ويحاول جاهدًا ألا ينشغل بها، أو كما قال: (أبغض الأمور إليّ أن أتحدث عن نفسي وأروع اللحظات عندي أن أهتم بموضوع ينسيني نفسي ويخرجني من نطاق النظر إليها أو الاهتمام بها أو الحديث عنها) وهذا ما يفسر لنا إقدام الرجل على خطىً غير تقليدية لمن كان في مثل مناصبه التي تقلدها. ومن ذلك أيضًا إيمانه المطلق بحرية الاجتهاد، فالمجتهد حر، ولعل الاجتهاد لا يصلح من غير حرية، إذ إنه عملية فكرية قائمة على مرونة تعاطي المجتهد لأدوات عقله من غير ترهيب أو ترغيب، أو كما قال هو واصفًا -في وصيته- مساحته التي رجا الله أن تظل آمنة، تلك المساحة بين سنّ القلم وسطح الورق: (ألا تنفتح لدخل أو غصب أو غواية). ولعل تمثله لهذا المبدأ، أو لعلّ استجابة دعائه، وجدناها في تلك الدعوى التي أقامها أحد الحزبيّين معترضًا على قرار اعتراض لجنة شئون الأحزاب على تأسيس حزبه ذي المرجعيّة الإسلاميّة، وقد تمحور قرار اعتراض اللجنة حول بناء الحزب على أساسٍ من الدين الإسلامي والشريعة مما يفرق به بين المواطنين على أساس ديني ويهدد وحدة المجتمع. وقد أودع عضو هيئة المفوضين المختص في مجلس الدولة تقريره بتأييد قرار لجنة شئون الأحزاب، لكنّ البشري، وكان وقتها يترأس هيئة المفوضين بمجلس الدولة المصري، رأى أن يقدم تقريرًا ثانيًا يوضع أمام هيئة المحكمة التي تنظر الدعوى، نظرًا لأهمية ما تثيره الدعوى من مسائل قانونية تحتمل وجهة نظر أخرى. وهذا ما يفسر لنا دعوى الرجل بشأن الاجتهاد، وحقيقة استقلاله عن نفسه.

ومرةً أخرى يلجأ البشري بواسطة منهجه التحليلي إلى الدستور باعتباره الملاذ السامي لكل ممارسة مجتمعية، ليجري ربطًا بين نصوصه مستخلصًا منها الرأي الذي يراه بصدد هذه المسألة فيقول:

(إذا كان الدستور قد أورد في صميم أحكامه التقريرية والتوجيهية أن دين الدولة هو الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وغير ذلك مما يؤكد الإسلام كأصل للشريعة ومعيار للاحتكام وإطار للمرجعية في المجتمع ونظمه المتمثلة في التشريعات، وإذا كان الدستور قد أورد كذلك أن الوحدة الوطنية أمر يتعين تأكيده وصيانته وإبعاد ما يتهدده، ومن ثم فإن لا منافاة بين الشريعة الإسلامية من جانب وبين الوحدة الوطنية من جانب آخر كما يلزمنا إدراك أن واضع الدستور بما وجه إليه في هذين الأمرين إنما رأى أن في وجود أيهما ما يزكي وجود الآخر ويدعمه، لا ما ينفيه ويضعفه).

وعليه انتهى البشري في تقريره أنه لا تعارض البتة بين تقرير الحزب المعني في نظامه الداخلي احتكامه للمرجعية الإسلامية، وبين القواعد المنظمة لتأسيس الأحزاب القاضية بضرورة عدم قيامها على أساس ديني.

ومن هذا المواقف نستخلص جليًا كيف اختط الرجل لنفسه هذا الخط الممجد للنص، دون أن يجمّده، ودون أن يعنى بأطر نصوصية ضيقة إذا ما أعوزته الحاجة في الفهم والتدليل والاسترشاد، فلا بأس عليه أن يلجأ إلى التاريخ مستنيرًا بالسوابق القضائية والرواسخ النصوصية، أو إلى نصوص لها مرتبة أعلى، أو يقيم ربطًا شاملًا بين أكثر من نص واحد في عملية فكرية معقدة يعبر عنها بأبسط العبارات.