شريف بسيوني: نافذة على فلسفته القانونية، وإرثه الخالد

· اوراق ومقالات



شريف بسشريف بسيوني:

نافذة على فلسفته القانونية، وإرثه الخالد

الجذور

البروفيسور محمود شريف بسيوني، الذي كان ينهي عقده الثامن حين توفى عام ٢٠١٧في الولايات المتحدة الأمريكية، هو قانوني مصري من أصول صعيدية، قام جده محمود
بسيوني بدور رائد في ثورة ١٩١٩، فهو صنو سعد باشا زغلول في جنوب مصر، يمكن أن
نصطلح على أن نطلق عليه زعيم الوفد في الصعيد، ثم ما لبث أن نفي معه. ثم انتمى
أبوه من بعد ذلك إلى حزب الأحرار الدستوريين، وفي هذا السياق، وربما بسببه، لم يغب
العمل الوطني عن خيال الصبي بسيوني، حتى شرع أن يتطوع مقاتلا في صفوف الجيش المصري
عام ١٩٥٦ أثناء العدوان الثلاثي على مصر.

تضافر الفكر والحركة
در
س بسيوني القانون في جامعة القاهرة، ثم جامعة أنديانا، ثم حصل على الماجستير من كلية جون مارشال، ثم الدكتوراة من جامعة جورج واشنطن، ومر خلال ذلك
بمحطات تعليمية في فرنسا وسويسرا. ثم بدأ تدريس القانون بجامعة دي باول بشيكاغو
منذ عام ١٩٦٤ وحتى عام ٢٠٠٩، وخلال السبعينيات. يبدو ان استثنائيته، في جانب منها،
تتعلق بتضافر الجهد الفكري مع العمل الحركي على نحو مستمر غير منقطع، إذ في عام ١٩٧٢،
كان أحد مؤسسي المعهد الدولي للدراسات العليا في العلوم الجنائية في إيطاليا (ISISC)

وبينما هو في بداية حياته العملية، أسند إليه من وزارة الخارجية الأمريكية أعمالًا مهمة في ملفات بالغة الحساسية، ومنها ملفات
التعاون الدولي في مواجهة جرائم الارهاب والمخدرات، والمشاركة مع فريق عمل المكلف
بالتفاوض مع حكومة إيران بشأن تحرير الأسرى الأمريكيين المعتقلين في طهران. اقترن
هذا العمل بمهام دولية، قد تأسس من بعدها وثائق قانونية غيرت من شكل وفاعلية
القانون الدولي العام في العالم بأسره، فقد اختير بسيوني رئيساً مشاركاً للجنة
الخبراء المستقلة التي قامت بصياغة اتفاقية منع وقمع التعذيب عام ١٩٧٨، ثم أنه كان
عضواً مؤسساً في معهد حقوق الإنسان الدولي بجامعة ديباول الذي، فضلا عن دوره في مفاوضات
كامب ديفيد. وقد كان دوره في تأسيس القانون الجنائي الدولي والمحكمة الجنائية
الدولية هو البوّابة التي رشحته لجائزة نوبل عام ١٩٩٩

المؤسس

عبر اثني وسبعين مؤلفا قانونيا، وأكثر من مائتي مقالا أكاديميا منشورا، تمت ترجمتهم إلى أكثر من عشر لغات، وضع بسيوني منهجه الفقهي الذي ارتكز معظمه حول
تأسيس نظام للعدالة الجنائية الدولية. وقد كان إسهامه فيه، فكرا وعملا ودعاية،
فكرا، بمؤلفاته التي رسمت عناصر الجرائم التي اخضعت لاختصاص المحكمة وطريقة عمل
المحكمة، وعملا، حين شارك في جهد تأسيس المحكمة في اتفاقية روما وفي تعيين الكوادر
المؤهلة لقيادة المراحل الاولى بعد التأسيس، ثم دعاية، وهو العمل الديبلوماسي الذي
قام به ساعيا نحو خلق إرادة دولية ورأي عام عالمي يتبنى فكرة تأسيس المحكمة ويؤمن
بضرورتها.
قد سبق تأسيس المحكمة حلقات من جهاد الدكتور بسيوني في مجال الجريمة الدولية،منها المقترح الذي وضعه لنظام عمل المحكمة وعناصر الجرائم التي تخضع لها عام ١٩٩٠،
ومنها أيضاً ما وقع في يوغوسلافيا حين اسندت إليه رئاسة اللجنة المستقلة المشكلة
من الأمم المتحدة للتحقيق في جرائم الصرب في حرب البلقان، وكان من ثمرة عمله، أن
صارت تقارير اللجنة هي النواة التي استند عليها قرار مجلس الأمن بتشكيل المحكمة
الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا.

أبو القانون الجنائي الدولي

لم تكن مصادفة أن يعقب هذا الحدث الفاصل تحرك دولي نحو مساءلة الأفراد جنائيا عن الجرائم الدولية، وقد اختير بسيوني، ليكون رئيساً للجنة صياغة بالمؤتمر الدولي
الذي انعقد عام ١٩٩٨ بشأن إنشاء محكمة جنائية دولية، ثم نائبا لرئيس اللجنة
التحضيرية بشأن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. تأسس القانون الجنائي الدولي،
ودخل حيز النفاذ، بإنفاذ اتفاقية روما عام ٢٠٠٢، لتبدأ العدالة الدولية عهدا
جديدا، بتحديات جديدة، أعقبت تمكين الضحايا الذين تعرضوا للانتهاكات الجسيمة
المذكورة. سار بسيوني في ذات الدرب، وكان عمله الفني تعزيزا وإنفاذا للقانون
الجنائي الدولي، فقد عمل بعد ذلك خبيرا مستقلاً في نظام العدالة العراقي (٢٠٠٢-٢٠٠٣)،
ثم خبيرا مستقلا في حقوق الإنسان لأفغانستان (٢٠٠٤-٢٠٠٦)؛ ورئيساً ثم عضواً بلجنة
التحقيق بشأن ليبيا (في الفترة من عام ٢٠١١ إلى عام ٢٠١٢). وقد شغل بسيوني أيضا منصب
رئيس اللجنة البحرينية المستقلة التي أُنيط بها التحقيق في الأحداث التي وقعت في
البحرين عام ٢٠١١، حيث عينه الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البحرين، شخصيا،
رئيسا للجنة. فضلا عن دوره التأسيسي في بعض الاتفاقيات الدولية التي صارت مادة
لبعض عناصر الجرائم الخاضعة للقانون الجنائي الدولي مثل اتفاقية مناهضة التعذيب،
واتفاقية مكافحة الفصل العنصري.

ولقد قامت فلسفة تأسيس المحكمة على دعم مساءلة ومحاسبة المسئولين الفارين من العقاب في أغلب السوابق التاريخية بفضل الغطاء السياسي او
الاجتماعي، ودعم الضحايا في ذات القضايا وهم الطرف الأكثر ضعفا، فقد جاءت المحكمة
لتغطي هذه الفجوة ب المظلة التشريعية الدولية، التي لم تكن تملك أية اداة للمساءلة
القانونية في حال نكلت الانظمة القانونية الوطنية عن القيام بدورها، أو كانت
التشريعات الوطنية قد امدت مثل هؤلاء الجناية بغطاء أو "حماية قانونية"،
تحول دون المساس بهم، ثم أن دولا عديدة قد وقعت في معضلة ادارة العدالة في مرحلة
ما بعد النزاعات او ما عرفت بالعدالة الانتقالية.


مبادئ شيكاغو

في أعقاب التغيّرات الكبرى بالعراق مطلع الألفية، كتب بسيوني في مقال له عام٢٠٠٥ بدورية كورنيل للقانون الدولي،بعنوان "عدالة ما بعد النزاع في العراق: تقييم لمحكمة العراق الجنائية الخاصة
IST " كتب بسيوني إن العراق يمر بلحظة لا تتكرر ويجب اغتنامها لتأسيس عدالة حقيقية و لتأسيس
حكم القانون في هذا البلد، وأن ذلك لا يبنى إلا على عملية عدالة انتقالية صحيحة،
تقوم على دعائمها الأربع، وهي لجان الحقيقة، ونظام لتعويض الضحايا، ومحاكمة
ومعاقبة سائر المتورطين في الجرائم التي وقعت بالفترة المعنية، وكذا تأهيل الكوادر
الوطنية عبر آليات التعاون الدولي لتأسيس نظام قضاء وأمن مؤهلين لعهد جديد من دولة
سيادة القانون.

من خلال هذه الركائز الاربعة للعدالة الانتقالية، ومن تجربة العراق، تبدو اهمية ما قدمه بسيوني في تحريره لمبادئ شيكاغو لعدالة ما بعد النزاعات.
مبادئ شيكاغو، هي عمل بحثي له صفة الارشاد لا الالزام. ويجدر النظر اولا ان بسيوني قد انفرد في هذه الوثيقة بتدشين مصطلح "عدالة ما بعد النزاعات"بدلا من "العدالة الانتقالية "، موضحا ان وصف العدالة أبداً بالانتقالية يوحي بقبول انتقاصها أو التوافق على ما يناقضها ولو بشكل مؤقت لحين مرور ظرف تاريخي
محدد، وهي التسمية التي توحي بفكرة قد تترجم لاحقا الى سلوك وتشريع.
ثم قامت وثيقة شيكاغو على مدونة من مجموعة مبادئ تحقق، كما أشرنا، ركائز العدالة الانتقالية وأولها المساءلة، ثم لجان الحقيقة، ثم جبر الضرر، والاصلاح
المؤسسي لهيئات القوات المسلحة والقضاء وجهات إنفاذ القانون. وقد كشفت مبادئ
شيكاغو وجها من فكر بسيوني، ومن هذا الوجه يظهر ميل بسيوني نحو مدرسة القانون
الطبيعي على نحو ما سنرى فيما يلي.

بسيوني وكانط والقانون الطبيعي
تقوم فلسفة العدالة عند ب
سيوني على جعل القانون الطبيعي واعتبارات العدالة مصدرا للسلوك البشري والقانون الذي ينظمه. وقد تقاطعت نظرية بسيوني، هذه،
في منطلقاتها مع ما كان تبناه كانط الذي أسس رؤيته للأخلاق والعدالة على فكرة الضرورة الملزمة، أي ان الطبيعة الانسانية في حد ذاتها ملزمة لاحترام حقوقها وحرياتها،
تشريعا وممارسات، بل وتصورا ذهنيا عن الحق والعدل. ولما كان ارتباط هذه الحقوق
والحريات بالطبيعة الإنسانية، هو ارتباط فطري اصيل، وقد أوجبه العقل البشري، فهو
غير متوقف على أي اعتبار آخر. ومن تطبيقات ذلك الفهم، أصبح لكل مصطلح معنى مباشر
وظاهر، ومعنى آخر لازم وتابع للمعنى الأول، لكنه يوجب معاني أخرى. ومثال على ذلك
لفظ "الإنسان" إذ في القانون الوضعي هو العنصر الخاضع للتنظيم الذي
يرسمه القانون، أما في القانون الطبيعي فهو يستدعي معان خفية غير مباشرة، إذ أن
هذه الطبيعة الانسانية توجب له كرامة وحقوق، متصلة بذاته الانسانية وليست ممنوحة
من أحد، ولذلك فهي ليست حقوقا قابلة للتعليق او السلب.
تتضح فكرة كانط أكثر إذا ما قورنت بنقيضها، ونعني هنا وضعها في مواجهة ماتلاها من موجة فلسفية غربية عرفت بإسم "النفعية" وآبائها بنتامثم من خلفه جون ستيوارت ميل، وهي الفلسفة التي ترى الأخلاق مرتكزة فيالأساس على ما تجلبه من منفعة وتدفعه من ضرر، أي ان الاخلاق او السلوك المطلوب
يقاس مدى إلزاميته بما يحققه من هدف ذاتي أو مجتمعي، وعليه فإن الاخلاق لابد وان
تندرج في نصوص قانونية ملزمة، وكل نص قانوني يسعى لنيل منفعة واضحة من وراء هذا
الإلزام.
وصدى ذلك بدى جليا في فكر بسيوني، إذ يرى أن النص القانوني لا يقاس بما يقوم عليه من منفعة، بل هو يحمي الحقوق والكرامة الإنسانية المرتبطة ضرورة
بالوجود الانساني كما أسلفنا، دونما نظر إلى أية مصالح أو "منافع" أخرى.
فصون الإنسانية وحماية الكرامة عند بسيوني هي غاية في حد ذاتها، وليست وسائلاً نحو
تحقيق غايات او منافع أخرى.
ويمكن أن نعزي هذا التحيز الفكري عند بسيوني إلى سبب أوضحه غير مرة،هذا الطرح الذي يرى أنه إذا كانت الحقيقة أو العدالة لا تتمثل إلا في النص
القانوني، فإن النص القانوني سيكون وحده هو الصواب، وسيكون الصواب حينذاك مرهونا
بالقوة والقدرة على فرض الإرادة، إذ أن الأقوى عادة هو الذي يفرض ارادته في وضع
النص القانوني وجعله ملزماً، تماما كما يكتب المنتصرون التاريخ، فإن العدالة حينها
والحق أيضا، سيكونان بجانب القوي فقط، والمنتصر فقط. ومن تطبيقات هذه الفلسفة عند بسيوني أنه قد خلص في كثير من المناسبات إلى ان المساءلة، التي هي إحدى أولويات تطبيق
القانون الجنائي الدولي، ليست مسألة قانونية وحسب، بل هي مسألة أخلاقية ووجدانية.

بسيوني وفلسفته القانونية
وإذا ما فهمنا قدرا من مرجعية بسيوني وتأثره بفلسفة كانط، فيمكننا أن نستنتج أن بسيوني قد اعتنق نظرية القانون الطبيعي في فهمه للعدالة وتعامله مع النصوص القانونية، وفي تصوره للمفاهيم الأساسية التي تشمل فهمه ل "القانون"، و "العدالة"، و "الحقوق"، ومن حيث محتوى
النص التشريعي ونطاقه، إذ المرجعية الأخلاقية للقانون هي الإطار الأساسي للنص،
باعتبار المرجعية الاخلاقية غاية في ذاتها، وليست وسيلة نحو منفعة أهم، وبوصفها
متصلة بالإنسان دون إرادة حاكمة تضع له هذه الحقوق أو تسلبها منه.
وقد أثمرت هذه البذرة الأولى - الانحياز لفكرة القانون الطبيعي- استطرادا أظهر أفكاراً أخرى، مثل فكرة نزع الشرعية عن القوانين التي تناقض الأخلاق والحقوق
الأساسية للإنسان. وفي هذا المقام يحضرنا مثال شاهد من نصوص القانون الجنائي
الدولي، الذي كان بسيوني على رأس القائمين على عملية صياغته وخلقه، إذ حفظه ذا القانون الأولوية للقانون الوطني في محاكمة مرتكبي الجرائم الخاضعة لنصوص
القانون الجنائي الدولي، ثم أضفى المفهوم القانوني المسمى بالتكاملية Complementarity بين القانون المحلي الوطني وبين القانون الدولي، إذ جعل النص القانوني الدولي نافذا وملزماً إذا
كان القانون الوطني او السلطات القضائية الوطنية "لا تريد او لا تستطيع"محاكمة المتهمين المتورطين في هذه الجرائم.
ومثال آخر، هذه المرة من جنوب أفريقيا، التي واجهت إرثاً عميقاً من قوانين الفصل العنصري Apartheid التي كانت تشير إلى ممارسات منهجية ومقننة لتصرّفات عنصرية تكرستمييز المواطنين على أساس اللون (الأبيض والأسود). ولم تزل هذه الممارسات مقننة في
تشريعات حتى نفضت هذه الأمة عن نفسها سياسة التمييز واطلعت على عملية عدالة
انتقالية لمحو آثار عقود من سياسة التمييز. يشغلنا هنا أمر القوانين والتشريعات
التي نظمت ممارسات التمييز العنصري، De jureApartheid Rights إذ أنه في نطاق الثقافة التشريعية في جنوب افريقيا، فإن أي نص قانوني او حكم قضائي أضفى شرعية على هذه الممارسات فهو قانون جائر ينبغي نقضه وإعادة
النظر في تعطيله او إلغائه. أما عند بسيوني فإن هذه النصوص او الأحكام هي معدومة
من الأصل لأنها قامت على أساس غير أخلاقي وهو تمييز عنصري على أساس اللون او العرق
Pseudo- Rightsأي انها حقوق زائفة، ومن هنا قد يكون مفتاحاً لفهم عبارة ملتبسة باللغةالعربية وهي "قانون غير قانوني"، أي القانون الجائر.

العدالة والقانون الجائر (معضلة جوستاف رادبروخ)

جوستاف رادبروخ فقيه جنائيألماني، تولى وزاره العدل في جمهورية فايمار، وكان معتنقاً الوضعية القانونية، ثم تراجع عن فكرته بعدما ظهر له من فظاعات الحكم النازي، رأى رادبروخ أن النص لابد وأن يحد دائماً بحدودٌ أخلاقية تكبح من جماح المشرعين. من هنا، فقد
كتب بعد الحرب العالمية الثانية عبارته المشهورة التي صارت تعرف بين علماء فلسفة
القانون بـ “صيغة رادبروخ” (Radbruchformula)، والتي يقول فيها:

“إن الصراع بين العدالة من جهة وموثوقية القانون من جهة ثانية ينبغي أن يُحسم لصالح القانون الوضعي، أي القانون الصادر من قبل السلطة
المشروعة والمختصة، حتى في الحالات التي يكون فيها غير عادل من حيث المحتوى والغرض،
فيما عدا الحالات التي يصل فيها التناقض بين القانون الوضعي والعدالة إلى مستويات
لا تُحتمل بحيث ينبغي عندها أن يخلى القانون مكانه للعدالة، وذلك بوصفه قانوناً
باطلاً"

ولذلك، فعندما نكون بصدد قانون لا يتحرى العدالة، فإنه لا يكون تشريعاً وإنما مجرد قانون جائر فهو في جوهره، مناقض لفكرة القانون من أساسها. هذا، لأن القانون،
بما في ذلك القانون الوضعي، لا يمكن تعريفه إلا بأنه قاعدة تهدف إلى خدمة العدالة
تحديداً. لكن هل يتبنى بسيوني ذات الفلسفة في نقد القانون وفهمه؟ الحقيقة إن بسيوني كان يرفض الصيغة الاختزالية في فهم العلاقة بين العدالة والقانون؛ فإن بسيوني يؤمن بالقانون الطبيعي، وبالمتطلبات المعيارية للأخلاق ولحقوق
الإنسان في صياغة القوانين، ولوصفها بالصلاحية او بخدمة العدالة. وتعد هذه
المعيارية الاخلاقية نقيضاً للمذهب الوضعي التي تقوم على احترام النص وانفاذه على
نحو ما شرع وصيغ فقط دون اجتهاد يخرج عن محتواه.

بسيوني وهارت (المشروعية والنفاذ/ الاعتراف والإلزام)
في أعقاب سقوط الرايخ الثالث في ألمانيا، شهد الفكر القانوني سجالا واسعا في مجتمع يتعرض لمرحلة انتقالية هي الأكثر جدالا على مر التاريخ، تحدث بين العدالة
والتعامل مع الإرث القانوني لفترة مضطربة، وتعلق هذا السجال في منشأه بالجرائم
التي وقعت في عهد النازي، وعن مقاضاة ضباط وتنفيذيّين، بل وقضاة نفذوا جرائماً في
العهد النازي، ولكنها كانت جرائم ارتكبت إنفاذًا لقوانين النازي التي وصفت بعد
سقوط نظامه بالقوانين الجائرة. كانت المواجهة الأولى عقب سقوط الرايخ الثالث
مباشرة، هي المواجهة بين المدرسة الاخلاقية والقانون الطبيعي التي مثلها جوستاف رادبروخ ولون فولر، وبين الوضعية التي مثلها هانز كيلسن ومن بعده هارت.

إن موقع بسيوني في جدلية الوضعية في مقابل الأخلاقية واضح في انتمائه لمدرسة القانون الطبيعي، إلا أن انحياز بسيوني ضد المدرسة الوضعية التيمثلها هارت ومن قبله هانز كيلسن، لم يجعله على توافق تام مع مذهب جوستاف رادبروخ وفولر. إذ أن بسيوني يرى أن القانون الجائر لا يمكن وصفه بالقانون على وجه "صارم وواضح ومنضبط"، إلا انه لا يفقد الزاميته بمجرد
هجره للأخلاق واحتوائه للجور او مجافاته للعدل ولا بمجرد انصافه بأنه "قانون
غير قانوني"، بل إن عدم قانونيته لا يمنعه من صفة الإلزام ما لم يعطل أو يمحى
بوجه رسمي، ولذلك فهو يرى أن المراكز القانونية المترتبة على القانون الجائر لابد وأنها
تتمتع بالمشروعية، لا بصفة العدالة التي يحققها النص المنشئ لها، بل بإلزامية هذا
النص إذ أنتج تفعيله تأسيسا لهذه المراكز القانونية.

وبالنسبة لهارت، من ناحية أخرى، فإن نزع صفة القانونية عن القانون الجائر هي خطوة تعادل إنكار الواقع لأن، في النهاية، الحقيقة هي الحقيقة، والقانون
هو الارض المطبق الملزم، وما ينبغي أن يوجد يُعتبر (فقط) ما ينبغي أن يوجد، مما
يعني مرة أخرى أن الحكم غير العادل أو المضمون 'غير الأخلاقي' لا يمكن أن يستبعد
القانون. يتجلى في هذه اللحظة الخلاف الحتمي بين بسيوني وهارت حول الخط الفاصل بين "الالتزام والاعتراف". فعند هارت، كسائر الوضعيين،النص القانوني هو القانون وهو الملزم والحاكم، فلا فرق بين الاعتراف بالقانون
كقانون، وبين الالزام أي انفاذ القانون وتطبيقه، إذ الوصفان صنوان لا يفترقان. أما
عند بسيوني، فقد يكون القانون ملزماً، لكنه قانون جائر، إذ أن جوره جعله غير منتمياً
لخلفية أخلاقية تشرعن وجوده ونفاذه، ولذلك يرسم بسيوني خطا فاصلا بينه وبينالوضعيين، إذ يضع حدا فاصلا بين النفاذ والإلزام للنص القانوني الجائر، وبين عدم
الاعتراف به كقانون على وجه منضبط وحاسم.

المؤلف:

القاضي- مصطفى حلمي الشريف