الشكلانيّة القانونيّة: سطوة النصّ الرسمي، وغَلَبَة المنطق المُجرّد

بقلم القاضي/ أحمد حمدان

· اوراق ومقالات

لا يكادُ يعرف تاريخ التفكير القانوني، وفلسفة القانون، ومدارس التفسير، وتيّارات العمل القضائي، لا يكادون يعرفون جدلًا أشدّ وأطغى من ثنائيّة "الشكلانيّة القانونيّة"، من ناحية، في مقابل الواقعيّة القانونيّة، بتجلّياتها الصارخة، من ناحيةٍ أخرى، وهي الناحية التي -من غير شكّ- لا تفتأ تربح يومًا بعد يومٍ أجيالًا من المناصرين والأتباع، لحسن الحظّ أو لسوئه، لا أحد يستطيع الجزم، ولا حتّى نحن، حتّى وإن حاولنا -في هذا المقال وما يلحقه من مقالات- الاشتباك مع الشكلانيّة بنظرةٍ متعاطفةٍ منحازة، تعاطفًا لا يحرمنا شرف الإنصاف؛ حِرمانًا نأباه ولا نقرّ به، وانحيازًا لا ينزع عنّا ثوب الموضوعيّة؛ نزعًا ننبذه ولا نرتضيه. ولأنّ الشكلانيّة القانونيّة ربيبة الوضعيّة القانونيّة، والتجلّي العملي لفلسفتها التنظيريّة في الواقع القضائي التطبيقي، وفي العمل اليومي للقضاة والشرّاح، فإن "الوضعيّة القانونيّة" حاضرةٌ في سعينا المحايد/المنحاز، لكنّها ليست النقطة الأولى، فإنّ "القانون الطبيعي"، هو الأجدر بهذا الوصف، ثم حدث أن تمرّد أنصار الوضعيّة على سلطانه، ومن ورائهم دُعاة الشكلانيّة القانونيّة. ولأجل هذا فإنّنا سنطّوّف بالمصطلحات الأربعة، لنرسم معانيها، وعلاقاتها البينيّة، وأثرها -إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ- في عمل المشترعين، وصنعة القضاة، ومُطوّلات الشرّاح، ثم نختم بالإلماع إلى جدلها مع الواقعيّة القانونيّة، النظريّة الأحدث نشأةً، والأعزّ نفرًا، والأكثر نفيرًا.

القانون الطبيعي Natural Law[1] مصطلحٌ بالغُ الإغراء، وكأنّه يحمل في تسميته مبرّرات ترجيحه والتسليم بمقتضاه، وكأنّه قدرٌ محتومٌ، وضربة لازبٍ لا تدعُ لأحدٍ خيارًا بديلًا، فكأنّه هو الأصل، وكأنّه هو المثال الأكمل، وكأنّه الصورةُ الفُضلى، وما عداها مسخٌ وانحرافٌ وتنكّبٌ عن جادّة الصواب. يفترض مفهوم القانون الطبيعي أن هناكَ قانونًا أعلى موحّدًا بين جميع البشر، قواعده غير مكتوبة، لكنّها ثابتة، لأنّ مصدرها الطبيعة الإنسانيّة وناموس الكون وقيم البشر وأخلاقهم المثاليّة، جاءت بإلهامٍ عُلويٍّ يفرضُ نفسَه فرضًا. ولمّا كان مصدر هذا الناموس ليس محلّ اتّفاقٍ بين البشر، فإنّ مفهوم القانون الطبيعي قد تطوّر قليلًا حتّى يحصل لنفسه على قوامٍ متماسك، فجعل العقل القويم هو مصدر القانون الواجب الامتثال، بدعوى أنّ هذا العقل واحدٌ، وقواعده واضحة، وهي الذي يستطيع الكشف عن القانون الطبيعي الخليق بالإنفاذ، ثم إنّه لمّا تبيّن -باستقراء التاريخ- أن القانون الذي كشف عنه ذلك العقل القويم، يتعدّد ويتباين، لا في الأزمنة المختلفة والأمكنة المتباعدة فحسب، بل في الزمان نفسه، والمكان ذاته، فإن فهم فكرة القانون الطبيعي قد تغيّر، ليكتسب مفهومًا مرنًا، يتجاوب مع المتغيّرات المكانيّة والزمانيّة، لكنّه -رغم هذه المرونة والقابليّة للتطويع- يُبقِي على حدٍّ أدنى مشترك، كقاسمٍ عامٍ متَّفقٍ عليه، كحُرْمة حياة الأفراد، وأجسادهم، وأموالهم، وأعراضهم، ليصبح بذلك مفهوم القانون الطبيعي أشبه بقاعدة عليا، أو مبدأ فوق تشريعي، تفقد أي قاعدة تنظيميّة معناها ودورها ومنطقها إذا ما جرؤَت على مخالفته.

بعد هذا الاستعراض الموغل في الاختزال والتكثيف لمفهوم القانون الطبيعي، يمكننا الآن فهم سياق وفكرة الوضعيّة القانونيّة أو Legal Positivism، والتي تُجاري القانون الطبيعي في فكرة أنّ القانون الحامي للقيم الإنسانيّة والحقوق، والحرّيّات، مُلزِمٌ واجب النفاذ، لكن ليس لأنّه عادل، ولا لأنّه أخلاقيّ، وإنّما لأنّه صدر عن سلطةٍ تملكُ إصداره، فالقانون ملزمٌ لأنّهُ قانون![2] الوضعيّة -إذن- نظريّةٌ تبحث في أصل القانون، فلسفته ومعناه، لتنسب هذا كلّه إلى إرادة السلطة التي أصدرته، لا إلى المنظومة القيميّة العليا الكامنة التي يردّدها أنصار القانون الطبيعي.[3] ولأنّ أساس القانون وسرّ نفاذه هو هذه الإرادة، فإنّه يُفرَضُ فرْضًا أيًّا ما كان رأي الناس في مدى توافقه مع الأخلاق أو القيم أو المصالح التي يرونها أولى بالرعاية، فحتّى وإن ظُنَّ بالقانون الجَوْر أو التمييز، فإنّه يظلّ قانونًا، ويكتسب معنى القانون، وصلاحياته، ما دام قد صدر عن سلطةٍ تملك إصداره.[4] إذن، فالقانون هنا منفصل عن المنظومة الأخلاقيّة، لا يقدح فيه خروجه عليها، ولا ينال من صفته إهداره لأولويّاتها، هكذا أكّد جون أوستن (ت ١٨٥٩)، أحد أشهر منظّري الوضعيّة،[5] وإن لم يكن الأوّل، فجذور نظريّته تمتدّ قبله إلى جيرمي بنتام (ت ١٨٣٢)، ومن قبله توماس هوبز (ت ١٦٧٩)، وهم أشهر من أن يُعرّفوا! لكنّ هذه الشهرة اللامعة لم تُنقذ النظريّة من ألذع الانتقادات، فالاكتفاء بمصدر القاعدة، وصفة هذا المصدر، للحكم عليها بأنّها قانونٌ واجبُ النفاذ، يجعل المجتمع بقضاته ومحاميه وشُرطته، يَخْضَعون في عملهم، ويُخْضِعون الناس -بالتبعيّة- لقوانين قد تكون عدوانًا خالصًا على المساواة أو الحرّيّة أو ما في حكمهما من القيم الإنسانيّة المتجذّرة في الوعي الجمعي كمبادئ وأفكار جديرة بالصون والإعزاز. ثم إنّ مدّ خيط أفكار هذه النظريّة على استقامته قد يقودنا إلى التسليم بالمقولة البغيضة التي تجعل القوّة مرادفةً للحقّ، أو تجعلها فَوْقَهُ بحسبانها تَخْلُقُه might makes right، لكنّ هذا النقد -حتّى نكون منصفين- يبدو أنّه تمادى في تحميل الوضعيّة ما لم تُرِدْه وما لم تسعَ إليه وما لم يدُرْ بخلد آبائها الأوائل، ولا -بالأخصّ- دعاتها المعاصرين، وفي طليعتهم، البروفيسور هيربرت هارت (ت ١٩٩٢)، المنظر الأهمّ على الإطلاق لملامح هذه النظريّة، والذي لا تزال دراسات فلسفة القانون، ونظريّات التفسير، ومدارس التشريع، تزور كتابه العمدة "مفهوم القانون The Concept of Law"[6]، منذ صدرت طبعته الأولى عام ١٩٦١، حتّى يمكن القول أنّهم -في هذا الباب- عيالٌ على هارت وكتابه، بصورةٍ أوْ بأخرى، لكنّ هذا الكتاب وصاحبه، بعد أن ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، فإنّهم يستحقّون زيارةً خاصّةً، نفرد لهم فيها مقالًا يوفّيهم حسابهم، ثمّ يبسُطُ جهد الرجل وكتابه في معارضة سَلَفِه أوستن،[7] وأثر هذه المعارضة في تعديل مسار الوضعيّة، ليخرج بها من معناها القديم المرتكز على فكرة السلطة والأمر والانصياع لهما فحسب، إلى معانٍ ومضامين أجدر بالقبول والتفهّم، وربّما بالتسليم والاتّباع، وإن كان تسليمًا واعيًا مُحاذِرًا، واتّباعًا ناقدًا مُحتاطًا.

لكنّ الوضعيّة القانونيّة، سواءً في معناها التقليدي القديم الذي عرضناه هنا، أو في معناها المُحدّث الذي طرحه هارت، ونعرضه لاحقًا في مقالته التي وعدناك بها قارئنا العزيز، تحمل في جيوبها عوائد لا تخفى، بل هي ظاهرةٌ ظهورًا أجلّ من أن يخفى. إنّ الوضعيّة تُعِينُ المُخاطَبَ بأحكام القانون على توقّع الحكم الذي سوف يناله إذا ما خالفه، والنصّ الذي سوف يُستخدم في إدانته أو تبرئته، وشروط هذا النصّ وتحفّظاته واستثناءاته، فيستطيع -من ثمّ- ممارسة حياته، وتدشين تجارته، وتوسيع استثماره، دون خشية مفاجأته بتغليب مصلحةٍ أو تَوَجُّهٍ، أو ترجيح قيمٍ أو مبادئ لم تعلنها السلطة الرسميّة القائمة على التشريع على نحوٍ جليّ. ثمّ إنّ الوضعيّة -وكأثرٍ لمزيّة هذه القدرة على التوقّع- تسمح بجعل البنيان القانوني واضحًا ثابتًا، فالقانون هو ما وقّعَ عليه من يملك إصداره؛ حَسْبُك أن تنظر إلى النصّ التشريعي، أو إلى السابقة القضائيّة الملزمة، وستعرف حقوقك وواجباتك، دون أن تتجشّم عناء البحث خارجها في أفكار المجتمع أو قيمه أو مبادئه. ثمّ إنّ الوضعيّة، بفصلها الصارم بين القانون والأخلاق، كرّست للحياد وجعلت الرقابة علي احترامه ممكنةً ميسورة، فإيداع سلطة تقرير ما يعدّ من مكارم الأخلاق وما لا يعدّ كذلك بيد شخصٍ أو فئة، إنّما هو ذريعةٌ هائلةٌ للانحيازات المُسبقة، والتفضيلات الشخصيّة، والإسقاطات الذاتيّة، وليس أضرّ على القانون وفكرته من جعله نهبًا للأهواء، وعُرضةً للأمزجة، وخادمًا للانحيازات، حتّى وإن كان الانحياز لخُلُقٍ نبيل، أو قيميةٍ حميدة، فما هو نبيلٌ عندي قد يكون عندك استفالًا واتّضاعًا، وما هو حميدٌ عندي قد يكون عندك مذمّة وتنقُّصًا، أمّا القانون فواحد: إنّه ما تراه السلطة قانونًا.

من رحِم الوضعيّة القانونيّة خرجت الشكلانيّة القانونيّة Legal Formalism[8]، والتي هي بحثٌ في كيفيّة عمل القضاة، لا في أصل القانون وفكرته. الشكلانيّة تنطلق من واقع أنّ القانون -الذي يصدر عن السلطة المخوّلة إصداره، وفق ما انتهت إليه الوضعيّة- يجب أن يُطبّق من خلال اتّباع قواعد المنطق الأرسطيّ الذي يضع النصّ في مقدّمة أولى، ثم الواقعة في مقدّمة ثانية، ليخرج الحكم القضائي كنتيجة، في معادلة منطقيّة بسيطة:

- كلّ من ارتكب خطأً سبّب ضررًا للغير يُلزم بالتعويض "نص/مقدّمة أولى".

- زيد ارتكب خطأً سبّب ضررًا لعمرو: صدم سيّارته "واقعة/مقدّمة ثانية".

- إذن: يُلزم زيد بتعويض عمرو "حكم/نتيجة".

وفقًا للشكلانيّة، يمكن تعميم هذا الفهم على سائر نصوص القانون، وفي فروعه كافّة: السارق عقوبته كذا/فلان سرق/إذن يعاقب بكذا، الشركة تنقضي إذا حدث كذا/حدث كذا/إذن تنقضي الشركة...إلخ. والقاضي في كلّ هذه الفروض، ومع كلّ تلك الوقائع، يطبّق هذا المنطق آليًّا، فلا يستدعي المواءمات ولا الملاءمات ولا الاعتبارات الأخرى للسياسة أو الاجتماع، ولا يترك للوجدان أو الحدس أو البصيرة مجالًا لتهميش المنطق الواضح أو تنحية العقل المجرّد. فكما أن القانون -وفقًا للوضعيّة التي تترجم عنها الشكلانيّة وتنطق بلسانها- واضحٌ جليّ في النص الرسميّ الملزم بعيدًا عن الأخلاق أو القيم التي تقبل الاختلاف عليها أو المجادلة في أوّليّتها، فإن تطبيقه كذلك يجب أن يكون بالوضوح ذاته، والمباشَرَة ذاتها. هذا المنحى -كما يؤكّد دعاة الشكلانيّة- هو الذي يضمن احترام النصوص القانونيّة وفق الفهم المباشر لعباراته، وهو الذي يضمن احترام إرادة السلطة التي أصدرته، وهو الذي يضمن احترام الجماهير التي انتخبت هذه السلطة أو رضيت بها -أو أذعنت لها- وليّةً لأمورها، حاكمةً لشؤونها، والقول بغير ذلك -يواصل منطق الشكلانيّة- إهدارٌ لفكرة القانون، وتحدٍّ للسلطة صاحبة التشريع، وانتهاكٌ لمبدأ الفصل بين السلطات، ما دامت ستجعل القاضي يمارس دور المشرّع؛ يوائم ويلائم، ويقرّر عن المجتمع، ويختار له قيمه وأخلاقه، ويوازن له بين مصالحه وأولويّاته!

خلقت وجاهة حجج الشكلانيّة زخمًا كثيفًا، جعلها تتسيّد زمنًا طويلًا، احتلّت فيه موقع الأغلبيّة الصائلة، إلى أن جاء وقتٌ ردّت فيه الواقعيّة الكَرّة عليها، فحوصِرَت الشكلانيّة حصارًا لا تُحسدُ عليه، حتّى تمرّدت أقلام القضاة وأوغلت في تقصّي الواقع الأخلاقي، وحتّى أَبَقَت ألسنة المحامين وغالت في الاحتجاج بالسياق الاجتماعي، تمرّدًا نراه حميدًا، وأُبوقًا نحسبه محمودًا، لا لنتائجه التي نجادل فيها، ولا لآثاره التي نجدها مُنْذِرة بمخاطر لا قِبَلَ لأحدٍ بها، وإنّما لأنَّ الواقعيّة بسببٍ من زحفها المُرْجِفِ، وبلَجَبِها الصاخب، جدّدت دماء الشكلانيّة، وأجبرتها على مراجعة نفسها، ونقد ذاتها، فاستطاعت الشكلانيّة البقاء، وإنْ في الظلّ، وإنْ في موقع الأقلّيّة المُهمّشة، وإنْ في مقاعد المعارضة، الخافتة حينًا، والمشاكِسة حينًا، لا كعزيز قومٍ ذلّ، وإنّما كعزيز قومٍ قَلّ!

لعلّنا الآن نستطيع -دون عناء- تلمّس قَسَمات الواقعيّة القانونيّة Legal Realism[9]، كتيّارٍ مقابل، وكنظريّة ضدّ، لما تنهض عليه الشكلانيّة وتدعو إليه. لا ريب أنّ الواقعيّة القانونيّة أكثر جاذبيّةً وأشدّ إغراءً، فهي تنتصر للأخلاق، وتناجي الضمير، وتستنطق التجربة، وتحارب التكلّس، وتجعل للجموع صوتًا، وللمصلحة العامّة اعتبارًا، وللاعتبارات الإنسانيّة تقديرًا وتأثيرًا. إنّ الواقعيّة تنعى على الشكلانيّة استقلالها عن الأخلاق، فالقاضي -كما يقول دعاة الواقعيّة- ضميرُ مجتمعه، وصوتُ قِيَمِه، ولا يمكن تحويله إلى مجرّد آلةٍ منطقيّةٍ صمّاء، تطبّق النصوص بحرفيّتها، وإن جارت النصوص، وإن حاد صانعوها، وإن أسفرت عن وجهٍ قبيحٍ يفتئت على الحسّ السليم! ثم إنّ الواقعيّة تنعى على الشكلانيّة جمودها البالغ حدّ التخلّف عن مجاراة نبض المجتمع وحركته، وحدّ العجز عن الاستجابة لمستجدّاته التي لا يصبح القانون قانونًا إذا لم يشتبك معها، ويقدّم لها الحلول! ثم إنّ الواقعيّة ترى في الشكلانيّة بوّابةً لإيقاع المجتمع بأسره في قبضة حفنةٍ من المشترعين، إن أصابوا نجا المجتمع، وإن ضلّوا هلك، دون أن يكون بيد القضاة مخرجٌ للتعامل المرن -الواقعيّ- مع النصوص التي أصدرتها تلك الحفنة المستأثرة بالسلطة الرسميّة للتشريع. ثم إنّ الواقعيّة ترى أن الممارسة العمليّة اليوميّة تكذّب الشكلانيّة، فالحديث عن الشكلانيّة في صورتها الكاملة محض حديث، والتغنّي بمزاياها محض أريحيّة، إذ الأرجح أنّ القضاة -يقول الواقعيّون- منذ بدء الخليقة، كانوا ولا زالوا، يُنزِلون على الوقائع مبادئهم وأفكارهم وقيمهم، والتي هي في الأصل مبادئ الحسّ السليم، والفطرة الراشدة، والعقل القويم، ثم هم من بعد ذلك يفتّشون بين نصوص القانون عمّا يوافق هذه القيم وتلك الأفكار، ليرصّعوا بها أحكامهم القضائيّة الرسميّة، والتي هي في خاتمة المطاف ليست إلّا ترجمةً عن المنظومة القيميّة الأخلاقيّة للمجتمع ومصالحه العليا كما يراها القضاة، وليس للنصوص التي تزيّنت بها الأحكام إلّا إضفاء الثوب الرسميّ عليها، بما يجعلها قابلةً للتنفيذ!

نال الشكلانيّة من الواقعيّة ما نالها، ولسنا الآن في مقام الذود عنها، بل حسبنا في هذا المقال هذا القدر، نَقْنَع بالخطّ الذي سلكناه في تناول الشكلانيّة، لا بالإبحار في عناصرها وتاريخها وأنصارها وآثارها وتطبيقاتها والرد على ما شاب انتقاداتها من مبالغات -فهذا ما ستفعله المقالات القادمة- وإنّما برؤيتها من علٍ، وسط أسلافها وأقرانها من النظريّات والأفكار، ليتبين موضعها، مكانًا ومكانة، فدون هذا التتبّع الخرائطي، تضحى أي محاولةٍ لشرحٍ مكوّناتٍ الشكلانيّة وتطبيقاتها وتجلّياتها في أحكام القضاة وكتابات الفقهاء، كمحاولة وصف الموسيقى للأصمّ، أو كوصف السماء للضرير، لا تزيد الموصوف له إلا حيرةً وتخبّطًا! لأجل هذا فإنّك إن لم تجد في مقالتنا هذه الكثير عن الشكلانيّة في ذاتها، فإنّما لأنّ هذه المقالة كانت طائرًا يحلّقٌ أكثر ممّا يحدّق، يستطلع الغابة قبل أن يحقّق موقع الشجرة، أما وقد عرفنا الآن الموقع والموضع، فقادم لقاءاتنا كلّها تحديق، نتفحّص فيها شجرة الشكلانيّة غصنًا غصنًا، ورقةً ورقةً، ثمرةً ثمرة، دون أن نغفل لِدَاتها من النظريّات والأفكار، فالمقارنة متّصلة، شئنا أم أبينا، والجدل باقٍ، قصدنا أم لم نقصد، حتّى إذا لم يبق في جعبتنا ما نضيفه عن الشكلانيّة وعالمها، غادرناها إلى تحليقٍ جديد، في سماء جديدة، بحثًا عن موضعٍ جديد، يستحقّ إعادة التحديق!

[1] انظر:

Wall, Edmund, 2010, “ Toward a Unified Foundation of Natural Law Ethics,” American Catholic Philosophical Quarterly, 84: 747–779.

وانظر كذلك:

Jensen, Steven, 2005, Knowing the Natural Law: From Precepts and Inclinations to Deriving Oughts, Washington, DC: Catholic University of America Press.

[2] انظر:

Aleksander Peczenik, On Law and Reason, Law and Philosophy Library 8 (Springer 2008) 180-181

[3] انظر:

https://plato.stanford.edu/entries/legal-positivism/

[4] انظر:

H. L. A. Hart, "Positivism and the Separation of Law and Morality", Harvard Law Review, 71: 593-6

[5] انظر:

H. L. A. Hart, "Introduction," in John Austin, The Province of Jurisprudence Determined, H. L. A. Hart (ed.), New York: The Noonday Press, 1954, pp. vii-ix

[6] انظر:

Hart, H. L. A. (herbert L. A. (2012). The concept of law (J. Raz & P. A. Bulloch, Eds.; 3rd ed.). Oxford University Press.

[7] انظر:

Moles, Robert N, Definition and rule in jurisprudence: a critique of H. L. A. Hart's response to John Austin, PhD thesis, University of Edinburgh, 1985, available at:

[8] انظر:

Richard A. Posner, Legal Formalism, Legal Realism, and the Interpretation of Statutes and the Constitution, 37 Case W. Res. L. Rev. 179 (1986)

[9] انظر:

Altman, Andrew (1986). Legal realism, critical legal studies, and Dworkin. Philosophy and Public Affairs 15 (3):205-235.