ابن خلدون والقضاء

القاضي: حسين أحمد علام

· اوراق ومقالات

ابن خلدون والقضاء

. توطئة:

أخذ منِّي ابن خلدون أكثر من سنتين. طافت هاتان السنتان بي وأنا ملازمٌ لمقدمته التي صدره بها موسوعته "كتاب العبر
وديوان المبتدأ والخبر وأيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان
الأكبر" ونطق فيها بمنهجيته التي أسست علم الاجتماع. لازمت المقدمة: قراءة
بدراسة لأجزائها الثلاثة طبعة نهضة مصر التي حققها تحقيقاً وافياً - وافياً بحق لا
من كليشيهات الألفاظ - الدكتور علي عبد الواحد وافي فأضفى لقب عائلته مسحةعلى صنعته.[1]انقضت السنتان. خِلت أن الطيف قد مرّ وتلاشت فتوناته. نعم، مرّ الطيف، لكن بعد
أنَّ نثر في عقلي ونفسي بذوراً أنبتت في السنتين شجرة أصلها ثابت وفرعها يعلو مع
الزمن ومع مقابلة مستجدات الحياة والتعثر في مطبات الواقع الاجتماعي والسياسي
والثقافي. قبض ابن خلدون على ناصية منهجي وتجذرت مقدمته في تفكيري وصرت أرى وأحلل
وأقيّم كل حادث من منظور خلدوني. قيام الدول من بذرة البداوة وتطورها وما تنتظم من
خطط ثم إرهاصات اضمحلالها وعلاماته، نشأة الصنائع وتطورها ولوازمها، بزوغ العلوم
وتقعيدها وتفرعها. ولا تدعنَّ لخاطرك أن يتصور المقدمة كتاباً تقادم عهده بفوات
القرون، فقد أسست المقدمة علماً ومنهجية ستتناوله القرون والأمم بالتقعيد والتفريع
لا بالمحو أو التخلي. هذا عن ابن خلدون المفكر، فما علاقة هذا بالقضاء؟

سنرى من خلال هذا المقالة كيف حقق ابن خلدون بينه وبين نفسه ما نسميه اليوم بمبدأ الفصل بين
السلطات، ذلك أنه رغم ما اتهم به من انتهازية وبراعة في اقتناص الفرص استطاع أن
يفصل بين ملكاته السياسية والقضائية فمارس سياسة براغماتية شديدة وعندما أسند إليه
منصب القضاء تولاه ولاية منزوعة السياسة متسمة في أحد وجهيها بالحيدة والاستقلالية
الواجبتين في رجل القضاء وفي الوجه الآخر نالها النقد لإفراطها في الصرامة والشدة
كما سنرى.

2. ولاية القضاء عند ابن خلدون:

يقول ابن خلدون إن الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في
مصالحهم الأخروية والدنيوية التي ترجع إليها ذلك أن أحوال الدنيا مردها كلها عند
الشارع إلى مصالح الآخرة.[2] والخليفة ينوب عن صاحب الشرع الذي يتصرف في أمرين: أولهما هو الدين بمقتضى التكاليف الشرعية
التي أُمِر بتبليغها وحمل الناس عليها، والأمر الثاني هو سياسة الدنيا بمقتضى
رعايته لمصالح الناس في العمران البشري، وحيث إن هذا العمران ضروري للبشر كانت
رعاية مصالحه وصيانته من الفساد إن أهملت ضرورية هي الأخرى، وتتحقق هذه المصالح
بسطوة الملك، ويكون تحقيقها أكمل بأحكام الشرع باعتباره الأعلم بهذه المصالح.[3]

والخلافة عند ابن خلدون تندرج في إطارها مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعين خططاً وتتوزع على رجال الدولة، ليؤدي كل واحد وظيفته المعينة له، وتتنوع هذه الخطط
إلى خطط دينية خلافية هي إمامة الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة وخطط
ملوكية سلطانية.[4]والقضاء وإن كان في أصله فصلاً في المنازعات بين الخصوم قطعاً للتنازع فإن تطبيق
الأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنة يجعل القضاء من الوظائف المنطوية في
الخلافة. لما كان ذلك كذلك فقد باشره الخلفاء الراشدون بأنفسهم في صدر الإسلام ثم
قلدوه غيرهم وفوضوهم فيه لاضطلاعهم بالسياسة العامة وأشغالها الكثيرة من جهاد وفتح
وسد ثغور فرأوا تفويض القضاة للفصل في المنازعات الناشبة بين الناس، وكان من فعل
ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ ولَّى أبا الدرداء بالمدينة
وشريحاً بالبصرة وأبا موسى الأشعري بالكوفة.[5]

ثم استعرض الإمام ابن خلدون اختصاصات القضاء في الإسلام، وأشار إلى تفويض الخلفاء للقضاة في النظر في المظالم،
وعلّق على هذا الاختصاص بأنه ذو طبيعة مزدوجة تمازجت فيها سطوة السلطان ونصفة
القضاء فاقتضى فيمن يباشره علو يد وعظيم رهبة لقمع الظالم وزجر المعتدي. وعندما
اضمحل شأن الخلافة في بعض الدول آل النظر في المظالم إلى السلطان واختصت الشرطة
بوظيفة الاتهام (وظيفة النيابة العامة حالياً) وإقامة حدودها ومباشرة القطع
والقصاص، وعين لذلك من يقضي بموجب السياسة لا الأحكام الشرعية، أما التعازير
وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً فاختص بها القاضي.

وعن شروط تولي القضاء أحال ابنخلدون إلى كتب الفقه وبخاصة كتب الأحكام السلطانية، لكنه قال إنه في عهد الخلافة
إذ كان القضاء من الخطط الدينية الخلافية أي مراسم الدين انحصرت أهليه توليه في
أهل عصبية الملك إما بالنسب وإما بالولاء أي العصبية الطبيعية أو المصطنعة، فلما
زالت الخلافة وصار الحكم ملكاً أو سلطاناً بَعُدَ القضاء عن أهل العصبية إذ لم يعد
من ألقاب الملك ومراسمه.

3. تولي ابن خلدون القضاء:

أ‌. مؤهلاته:
ثمة اختلاف في شأن صلابة خلفية ابن خلدون العلمية وصلاحيته لمنصب القضاء، فقد وصف تقي الدين المقريزي مقدمته بأنها: "لم
يعمل مثالها، وإنه لَعزيز أن ينال مجتهد مَنَالها إذ هي زُبدة المعارف والعلوم
وبهجة العقول السليمة والفهوم، توقف على كُنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث
والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبىء عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدُّر
النَّظيم وألطفُ من الماء مَرَّ به النسيم ".[6]وعدد السخاوي ملكاته العلمية وقراءاته فقال: "وحفظ القرآن والشاطبيتين ومختصر
ابن الحاجب الفرعي والتسهيل في النحو ... واعتنى بالأدب وأمور الكتابة والخط وأخذ
ذلك عن أبيه وغيره ومهر في جميعه، وحفظ المعلقات وحماسة الأعلم وشعر حبيب بن أوس
وقطعة من شهر المتنبي وسقط الزند للمعري".[7]

وقيل في مدحه كذلك: "هو رجل فاضل جم الفضائل رفيع القدر أصيل المجد وقور المجلس عالي الهمة قوي الجأش
متقدم في فنون عقلية ونقلية متعدد المزايا شديد البحث كثير الحفظ صحيح التصور بارع
الخط حسن المشورة مفخر من مفاخر المغرب... وكان لسِناً فصيحاً بليغاً حسن الترسل
وسط النظم مع معرفة تامة بالأمور وخصوصا متعلقات المملكة، وأنه الأستاذ المنوه
بلسان سيف المحاضرة وسحبان أدب المحاضرة... وله من المؤلفات غير الإنشاءات النثرية
والشعرية التي هي كالسحر التاريخ العظيم المترجم بالعبر في تاريخ الملوك والأمم
والبربر، حوت مقدمته جميع العلوم وجلت عن محجتها ألسنة الفصحاء فلا تروح ولا تحوم".[8]

في المقابل حمل الامام بن حجر العسقلاني على مسلك ابن خلدون وعلمه فانتقد فيه التبسط بالسكن على البحر والإكثار
من سماع المطربات ومعاشرة الأحداث وأنه قد تزوج امرأة لها أخ أمْرَد يُنسب للتخليط
فكثرت الشناعة عليه،[9]ثم عرض مهارته في الأدب وأمور الكتابة والخط،[10]لكنه كذلك في معرض رده على إطراء المقريزي للمقدمة قلل من تلك المهارة وعدّها من
قبيل التلاعب بالكلام على طريقة الجاحظ واعتبر البلاغة زينة تُحَسِّن الشيء فاقد
الحسن.[11] والحقيقةأن قياس كتابة ابن خلدون على نثر الجاحظ ونقدهما فيه نظر من ناحيتين، أولهما: أن
ابن خلدون في مقدمته قدّم لكتابه في التاريخ وأسس لمنهجيته في نشأة العمران وتطوره
وزواله، أما الجاحظ فقلمه في الأساس تحرك بما تمليه الصنعة الأدبية قبل أيّ شيءٍ
آخر. والناحية الثانية أن مدح المقريزي لمقدمة ابن خلدون لم يقتصر على إطراء
بلاغتها وإنما زاد فمدح موضوعها المعرفي ومنهجها. وقد أضاف ابن حجر أن أهل المغرب
لما علموا بتوليه القضاء في مصر اعتبروا ذلك من قبيل قلة المعرفة لدى المصريين بل
وصغر منصب القضاء في أعينهم بعد أن تولاه ابن خلدون.[12] ووصف الركراكي ابن خلدون بأنه عريٌّ عن العلوم الشرعية وله معرفة محدودة بالعلوم
العقلية، لكنه أثني على محاضرته في العلوم العقلية.[13] وفيهذا السياق كذلك أثنى البشبيشي على فصاحته وتفوهه ومظهره لا سيما إن كان معزولا عن
منصبه، فإذ آلت إليه الولاية صار لا يعاشر ودعا إلى اجتنابه.[14]

ب‌. ابن خلدون على مسرح السياسة:

يقول فرانسوا جيزو: "إذا دخلت السياسة حرمَ القضاء خرجت منه العدالة حتماً". فالسياسة والقضاء ضدان من حيث المؤهل والأدوات والغاية، فالسياسة
تبتغي تحقيق الممكن بكل الوسائل الممكنة، أما القضاء فغايته تحقيق العدالة عن طريق
تحري الحق في إطار تطبيق القانون بيد قضاة يفترض فيهم النزاهة والحيدة والتجرد.
لذا تحظر القوانين على القضاة الاشتغال بالسياسة وتعتبرها مثلبة تنال من صلاحية
القاضي. لذا كان ضرورياً إلقاء الضوء على الجانب السياسي في حياة ابن خلدون قبل
الحديث عن ولايته ليستبين مدى تأثير السياسة على عمله قاضيًا.

تقلد ابن خلدون عددا من الوظائف السياسية والدبلوماسية والإدارية والعلمية: فقد أسند
إليه كتابة العلامة عن صاحب تونس، ورحل إلى فاس بالمغرب ووقع في محنة على يد سلطانها
أبي عنان انتهت به إلى الاعتقال سنتين، ثم ولي كتابة السر لأبي سالم أخي أبي عنان
والنظر في المظالم، ثم رحل إلى الأندلس، وفي غرناطة تلقاه سلطانها ابن الاحمر عند
قدومه وجعله في زمرة مجلسه وابتعثه رسولا إلى عظيم الفرنج بإشبيلية الذي عظمه وأكرمه
وقد أدى مهمته، ثم توجه إلى بجاية ففوض اليه صاحبها تدبير مملكته مدة، وعندما دخل
مصر تلقاه أهلها وأكرموه وأكثروا ملازمته والتردد اليه وتصدر للإقراء بالجامع الأزهر
مدة، ولازم الطنبغا الجوباني الذي اعتنى به ثم أسند إليه الظاهر برقوق التدريس في
المدرسة القمحية،[15]وبعد ترك القضاء ولي مشيخة المدرسة البيبرسية وقتاً وكذا تدريس الفقه بقبة الصالح
بالبيمارستان وتدريس الحديث بالمدرسة الصرغتمشية.[16]

هكذا كانت حياة ابن خلدون السياسية، مناصب هامة ومهام كبيرة وتدريس وسجن، ثم كان لقاؤه بتيمور لنك. فعندما وردت
الأنباء باستيلاء جيش المغول بقيادة تيمور لنك على حلب وتوجهه إلى دمشق وكنت الشام
حينئذ خاضعة لحكم مماليك مصر خرج ابن خلدون في جيش مصر بقيادة الناصر فرج، وفي
الحرب دارت أمور وعاد السلطان إلى مصر لوأد انقلاب وحدثت في المعسكر مشاورات
وخلافات، وحدث أن دلّت جماعة من القضاة ابن خلدون من سور المدينة فأخذه جند المغول
إلى معسكرهم حيث التقى تيمور لنك الذي سأله عن بلاد المغرب فوصفها له وكتب له
مختصرا عنها ثم تحايل للرجوع.[17]فكأنه أراد أن يمد حبلاً إلى تيمور لنك إذا ما تغلب ودانت له مصر فقد ذهب إليه تحت
ذريعة التفاوض مقدماً من جماعة القضاة، وتألّفه بمعلوماته وكتابه، ثم خلص منه ورجع
إلى مصر حيث السلطان صاحب الشرعية مؤمناً نفسه من كل الجوانب بحرفية سياسية
وبراغماتية لم تعدم مبرراتها.

ج‌. ابن خلدون على منصة القضاء:

تولَّى الإمام ابن خلدون منصب قاضيقضاة المالكية في مصر أكثر من مرة. وكانت أول مرة عندما غضب السلطان على صاحب
المنصب فعزله وعيّن مكانه ابن خلدون الذي كان حينئذ في منصب التدريس في القمحية،
ثم أعفي من منصب القضاء بعد عام واحد وقد فسر ذلك بتمالؤ آلامه بسبب فقد أسرته
غرقاً في البحر على مشارف الإسكندرية وهي قادمة إليه من تونس ما زهّده في المنصب
مع تصاعد مكايد خصومه وسعايتهم ضده لدى السلطان.[18] ثمعاد إلى ارتقاء منصبه قاضي، وفي أثناء هذه الولاية التي استمرت عامين استأذن
الناصر فرج بالسفر إلى فلسطين وزيارة بيت المقدس فأذن له ثم عاد وما لبث أن عُزِل
مجددا من منصبه عام بعد ثلاثة أشهر من عودته من القدس الشريف، وفسَّر ابن خلدون
عزله الثاني بأن الفقيه المالكي القائم بأعمال المنصب سعى فيه لنفسه بتحريض أصحابه
وعون جماعة من بطانة السلطان فانتزع المنصب لنفسه وعاد ابن خلدون إلى التدريس
والتأليف.[19]

وقد كان في مصر في هذا العهد أربعة مناصب قضائية بعدد المذاهب الفقهية،فكان ثمة منصب قاضي قضاة المالكية وقاضي قضاة الشافعية وقاضي قضاة الحنفية وقاضي
قضاة الحنابلة، ولكل اختصاصه المكاني عدا قاضي قضاة الشافعية الذي عمّ اختصاصه
البلاد وانفرد بالنظر في أموال اليتامى والوصايا بوصفه كبير جماعة القضاة.[20] ويناظراختلاف الاختصاصات موضوعات الاختصاص النوعي (أي المتعلق بنوع الدعوى) والاختصاص
المحلي (أي دائرة اختصاص المحكمة من حيث المكان) في القوانين الإجرائية الحديثة.

وفي ممارسة الإمام ابن خلدون لولاية القضاء اتفاق وخلاف. فأما الاتفاق فيستفاد ضمناً
ويتعلق بعدم تأثير الخلفية السياسية لابن خلدون ومثلبة الانتهازية التي اعترته على
متطلبات عمله القضائي. وأما الخلاف فقد دار حول تقييم قضائه ذاته.

يقول الدكتور وافي فيتمهيده للمقدمة شارحاً وناقلاً عن صاحبها إنه عندما ولي قضاء المالكية في المرة
الأولى كان قضاء مصر يعاني فسادًا واضطرابًا وتغليبًا للأهواء والأغراض فبذل ابن
خلدون جهده من أجل إصلاح أسباب الفساد وتحقيق العدالة متوخياً سبل التزام المساواة
بين الناس أمام حكم القانون والإعراض عن مداخل الحيلة والمحاباة والطرق الملتوية[21]"وإنه باشر القضاء بحرمة وافرة وعظمة زائدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة
وشفاعات الأعيان".[22]

في المقابل ذُكر في نقد ولاية ابن خلدون للقضاء أنه مارسه ممارسة صارمة غير معهودة في مصر فكشف للناس
وجهاً صعباً بل تنكر للقضاة أنفسهم إذ لم يقم لهم عندما دخلوا للسلام عليه وإن
اعتذر لاحقاً لمن عاتبه على ذلك وفَتَكَ بأعيان الموقعين والشهود، وصار يوقع عقوبة
الصفع تعزيراً تحت اسم "الزج"، وتشدد في قبول الشهادة فرفض شهادة
الأستادار الكبير رغم تعصب ابن خلدون نفسه له في السابق، وحصرت مآثره القضائية في
الصيانة التي أدى بها عمله، كما أخذ عليه عدم التزام زي القضاة وتمسكه بالزي
المغربي،[23]وفي ولاية أخرى ذكر أنه لم يتخل عن عسفه وإن استكثر من النواب والشهود والعقاد
وأظهر في آخرها ضعفاً وعجزاً ولينا مفرطاً،[24]ما يعكس ما أشرنا إليه آنفاً حاله بعد فقد أهله.

وبتحقيق هذه الانتقادات وردهاإلى ما قاله ابن خلدون نفسه نجدها وقائع قابلة للتأويل لصالح واجبات القاضي وقدسية
منصبه وسعة سلطته التقديرية من غير انحراف. فقد ذكر ابن خلدون في كتابه "التعريف
بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً" الذي يمثل سيرته الذاتية – الظروف التي تولي
فيها منصب القضاء والمبادئ التي وضعها لنفسه وسار عليها في ممارسة ولايته على
النحو التالي:

· مبدأ استقلال القاضي في عمله:

قال ابن خلدون: " فقمت بما دفع إلي من ذلك المقام المحمود، ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله لا تأخذني في الحق لومة ولا
يزعني عنه جاه ولا سطوة مسوياً في ذلك بين الخصمين، آخذاً بحق الضعيف من الحكمين معرضاً
عن الشفاعات والوسائل من الجانبين... والله مجازيهم ومسائلهم".[25]

لقد أظهر ابن خلدون احترامه وتقديره لولاية القضاء وعِظَم أمانتها التي ألقيت على عاتقه، وكشف ما لاقاه من دسائس ولوم وتشويه بسببمذهبه المنضبط الصارم الذي خاض به المناخ القاتم الجاثم على ساحات التقاضي حينئذ.
فمن الضوابط الرئيسة لعمل القاضي أن ينأى بنفسه عن الشبهات ويتمسك بالحيدة والاستقلال
عن سلطات الدولة ويرد كل شفاعة أو وشاية وأن يلتزم المساواة بين الخصوم في الادعاء
والدفاع حتى تظهر الحجة ويستبين الحق في النزاع فيقضي به. ويحمد للقاضي صرامته
واقتصاده في العلاقات ما دام ذلك في موضع تحفظ فيه لصفة القاضي هيبتها. ويؤكد هذا
النظر أن تعداد السلبيات المذكورة آنفا في حق ابن خلدون قد اقترن بالإشارة إلى
تباسط الرجل مع الناس في رحلته للحج وتواضعه، وتردده على ذوي الحيثية في غير ولاية.[26]

ثم إن الإمام ابن حجر نفسه وهو من أشد الناقدين للإمام ابن خلدون قد ذكر أن كثيراً مما سعى به الساعون
في قدح الرجل كان عارياً عن الحقيقة بغرض الحط من شأنه حتى كان عزله من منصبه.[27]

· قبول الشهادة وتقدير الدليل وإنزال العقوبة:

يقول ابن خلدون: "كان البر منهممختلطاً بالفاجر، والطيب ملتبساً بالخبيث، والحكام (القضاة) ممسكون عن انتقادهم متجاوزون
عما يظهرون عليه من هناتهم لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة... فأعضل داؤهم
وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجع
العقاب ومؤلم النِّكال... فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم علي وأحقدهم...".[28]

عرض ابن خلدون الأحوالالمتردية لمجال الإثبات أمام القضاء وما شابه من فساد أعوان القضاة والتلاعب في
الأحكام والعقود وامتهان الشهادة وطغيان الكذب والتزوير والرشا والتدليس وتصنع
العدالة بارتياد مجالس الأمراء وتعليم القرآن وإمامة الصلاة فيترك الشاهد بذلك
انطباعا لدى الأمراء والناس يزكيه أمام القاضي فكان فرضاً على القاضي التشدد في
الشهادة وطرح أكثرها لشيوع الكذب والتدليس واستشرائه في جميع الأوساط، بل ولزم
الضرب بقوة على يد المذنبين؛ ووطء العقوبة يجب أن يبحث في سياق القضية المعروضة
والجرم المرتكب فلم يكن ابن خلدون بدعاً في شدته وزجره. وتضع القوانين الحديثة
نصاباً للشهادة ولا تعتمدها دليلاً في بعض المنازعات وتترك لإطلاقات القاضي تقدير
شهادة الشهود والاطمئنان إلى صحتها. وإن تعصب ابن خلدون لشخص الأستادار المشرف على
البيوت السلطانية ثم طرحه شهادته يبرز بجلاء استقلاليته في عمله القضائي وطرحه
الأهواء الشخصية والالتزام بمسطرته في قبول الشهادة. بل إن في ذلك التزاماً صارماً
بالشكلانيّة القانونية ورسومها وضوابطها لم تفت فيه خلفيته السياسية وبراجماتيته
شيئا أو تضفي عليه مسحة من الواقعية القانونية، وهو ذات ما فعله في الفتيا، حيث تناول بالذكر الفوضى التي سادت الفتيا إذ تصدى لها الكثرة بلا ضوابط اختيار ولا قواعد للأهلية ومنهم مجهولون بلا
إجازة علمية، وتمادى أولئك المفتون فتصدوا للحكم بين الناس وفق الأهواء، فتضاربت
الفتاوى والأحكام ما من شأنه زعزعة المراكز القانونية فتصدى ابن خلدون لذلك بحزم
مغربلا وسط الإفتاء مغلقاً قنواته غير الشرعية منتصراً للشكلانية القانونية
وتقعيدها وهرميتها وآلية عملها[29].

إن ابن خلدون قد دخل معتركاً صعبا إذ ولي القضاء في مناخ متلبد بالوشايات والمحاباة والجور فصان ولايته
من السياسة والنوازع الشخصية وجاهد في ممارسة عمله في إطار ضوابطه وتقاليده لكن
السياسة لم تتركه فُعزل من منصبه أكثر من مرة بسبب فساد الجهاز الحكومي[30]ذي السطوة والحظوة حينئذ.

[1] مقدمة ابن خلدون – دراسة وتحقيق وتعليق الدكتورعلي عبد الواحد وافي – دار نهضة مصر للنشر – الطبعة الثامنة – مايو ٢٠١٧.

[2] مقدمةابن خلدون - المرجع السابق – بند ١ – الجزء الثاني – ص ٥٦٢ و٥٦٣.

[3] مقدمةابن خلدون - المرجع السابق – الجزء الثاني – ص ٦٠٢.

[4] مقدمةابن خلدون - المرجع السابق – ج٢ – ص ٦٠٢ و٦٠٣.

[5] مقدمةابن خلدون - المرجع السابق – اج٢ – ص ٦٠٤ - ٦٠٦.

[6] ابنحجر شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد العسقلاني – رفع الإصر عن قضاة مصر – ص ٢٣٦.

[7] شمسالدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي – الضوء اللامع – ج٤ - ص ١٤٥.

[8] السخاوي - المرجع السابق – ص ١٤٧-١٤٩.

[9] ابن حجرالعسقلاني - المرجع السابق – ص ٢٣٦، السخاوي - المرجع السابق – ص ١٤٦.

[10] المرجعالسابق – ص ٢٣٤.

[11] المرجع السابق – ص ٢٣٦.

[12] ابنحجر - المرجع السابق – ص ٢٣٥، السخاوي- المرجع السابق – ص ١٤٦.

[13] المرجع السابق – ص ٢٣٤و٢٣٥. وفي المقام ذاته أشار ابن حجر إلى التنافس والخلاف الذي وقع بين ابن خلدون
والركراكي.

[14] ابنحجر - المرجع السابق – ص ٢٣٤، السخاوي - المرجع السابق – ص ١٤٧.

[15] المدرسةالقمحية: هي مدرسة أنشأها الناصر صلاح الدين الأيوبي ووقفها على المالكية
ليتدارسوا فيه الفقه، ووقف عليها أراضي في الفيوم تغل القمح فسميت لذلك بالقمحية -
مقدمةابن خلدون - تمهيد المحقق - المرجع السابق – بند ١ – ج١ – ص ٨٣.

[16] السخاوي- المرجع السابق – ص ١٤٥ و١٤٦، ابن حجر - المرجع السابق – ص ٢٣٤.

[17]السخاوي - المرجع السابق – ص ١٤٦، مقدمةابن خلدون - تمهيد المحقق - المرجع السابق – بند ١ – ج١ – ص ٩٦-١٠٠.
[18] مقدمة ابن خلدون- تمهيد المحقق - المرجع السابق – ج١ – ص ٨٤-٨٧.

[19] المرجع السابق – ص ٩٤ و٩٥.

[20] المرجع السابق – ص ٨٥.

[21] المرجعالسابق – ص ٨٥-٨٩.

[22] السخاوي- المرجع السابق ص ١٤٨، مقدمة ابن خلدون - تمهيد المحقق - المرجع السابق – الجزء الأول – ص٨٦.

[23] ابنحجر - المرجع السابق – ص ٢٣٤-٢٣٦، السخاوي- المرجع السابق – ص ١٤٦ و١٤٧.

[24] ابنحجر - المرجع السابق – ص ٢٣٥، السخاوي- المرجع السابق – ص ١٤٦ و١٤٧.

[25] الإمامعبد الرحمن بن خلدون - التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً – منشورات دار الكتاباللبناني للطباعة والنشر – ١٩٧٩ – ص ٢٧٣ و٢٧٧ و٢٧٨.

[26] ابن حجر - المرجع السابق –ص ٢٣٥ و٢٣٦،السخاوي -المرجع السابق – ص ١٤٧.

[27] ابن حجر - المرجع السابق –ص ٢٣٥.

[28] التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً – المرجع السابق – بند ٢٨ – ص٢٧٣-٢٧٥.

[29] التعريف بابنخلدون ورحلته غرباً وشرقاً – المرجع السابق – ص ٢٧٥-٢٧٧.

[30] مقدمة ابن خلدون - المرجع السابق – ج١ – ص ٩٥.

القاضي: حسن أحمد علام