أوليفر هولمز رائد الواقعية القانونية

بقلم القاضي/ حسين علّام

· اوراق ومقالات

 

1. توطئة:

في الرواية التاريخية صفة وتأثيرا (ثلاثية غرناطة) للأديبة المصرية الراحلة د. رضوى عاشور سقطت غرناطة في أيدي القشتاليين وانطوت الأندلس في مجلد التاريخ وذاكرة المسلمين، وقامت محاكم التفتيش سيئة السمعة تنكل بالمسلمين، وجرت محاكمة سليمة التي كانت تمارس الكيمياء بتهمة السحر. ودارت مداولة قضاتها في إطار تحقيق عن صلتها بالشيطان: هل ابنتها هي ثمرة علاقتها بالشيطان الذي جاءها على هيئة تيس وفقا لرسمة التيس المضبوطة لديها؟ لكن الشيطان روح وليس جسداً. فيحتج أحدهم بما جاء كتاب القديس أوغسطين بأن الشيطان يجوب الأرض ويجمع البذور ومنها النطف البشرية لينتج ما شاء من الثمار. فيرد آخر محتجا بكلام الأب أنطونيو بأن الشيطان روح فمهما فعل من شر لا يستطيع أن يبث الحياة في إنسان من لحم ودم، فهذا من خصائص الجسم الحي. وانتهوا إلى أن الشيطان قام بدور الوسيط الذي وضع في سليمة نطفة رجل آخر!

إن هذه المداولة القضائية قد دارت في قنوات دائرة ضيقة من المصطلحات والقواعد اللاهوتية ولم تعكس لا واقع القضية ولا واقع المجتمع، وكان الواقع الوحيد هو الحكم بالموت حرقا وتنفيذه على سليمة، والذي قام على حيثيات تمخضت عنها تلك المداولة الكهنوتية. فلماذا طبقت المحكمة تلك المفاهيم والقواعد؟ الإجابة هي "لأنها غيبيات تؤمن بها". فكيف نعرف أنها من الغيبيات؟ الإجابة هي "من طريق التطبيق". ولماذا طبقت دون غيرها؟ لأنها من الغيبيات... إذن ثمة حلقة من السببية يصعب فيها الإمساك بمبتدأ الأمر.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى قواعد القانون والمصطلحات القانونية وفقا لمدرسة الواقعية القانونية. فإذا أردنا أن نعرف مصطلحا مثل حق الملكية سنلجأ إلى نصوص القانون وأحكام المحاكم وشروح الفقه، وسنجد في هذه النصوص والأحكام والشروح تعريفا لحق الملكية وإثباته لشخص ما عندما تتحقق صلة معينة بينه وبين العين التي يرد عليها الحق كقطعة أرض أو سيارة. فما هي هذه الصلة؟ هي ما اعتبرته المحكمة حق الملكية للخصم؟ فما هو حق الملكية؟ هو هذه الصلة التي كشفت عنها المحكمة، إذن يدور الأمر على نفسه في حلقة ابتدعها القانون.

2. القانون والواقع:

والقانون في تقلب مستمر عند ملتَقَى الواقع والكتب، الممارسة والعلم، ما يدور على الأرض وما ينزل من سماء النظريات. وتظل القاعدة القانونية مصمتة ومحض صنيعة للمشرع إلى أن يطبقها القاضي على الواقع فتجري فيها الحياة وتقترن بمنازعة ما تكون بمنزلة تجربة الجهاز الذي صنعه المشرع. لذا ثار خلاف: هل يضع القاضي بذلك القاعدة القانونية أم يقتصر دوره على تفسيرها وتطبيقها؟ وانفتح الباب لنقد الشكلانيّة القانونية formalism وظهور اتجاهات تتناول القانون وقواعده من زوايا مختلفة، مثل الواقعية القانونية legal realism والوظيفية functionalism.

ففي مقالته "اللا معنى الغيبي والمذهب الوظيفي Transcendental Nonsense and the Functional Approach"،[1] قدم الفقيه الأمريكي فيليكس كوهين نقدًا للمفاهيم القانونية المجردة التي لا يمكن إثباتها بدليل من الواقع خارج إطار القانون، واعتبرها ذات طبيعية غيبية مستدلًّا بالتسبيب القانوني الدائري circular legal reasoning، وضرب أمثلة منها الاسم التجاري؛ والذي يتمتع بالحماية القانونية بناء على قيمته الاقتصادية، وهذه القيمة تعتمد على مدى الحماية التي يسبغها عليه القانون، ورأى أن المحاكم لم تأت بهذا الحق من عدم بل من الحقائق الاجتماعية والعادات التجارية والقيم والتحيزات الشعبية؛ ما جعله يذهب إلى أن السؤالين الرئيسيين في مجال القانون هما: كيف ستتعامل المحاكم مع نوع معين من المنازعات؟ وكيف يجب أن تتعامل معها المحاكم؟ وتبنى كوهين مذهب الواقعية القانونية للفقيه والقاضي الأمريكي أوليفر هولمز Oliver Wendell Holmes Jr الذي عارض الشكلانيّة القانونية وقدم نهجًا جديدًا لفهم القانون وسن التشريعات والفصل في المنازعات.

فقد ذهب أوليفر هولمز إلى أن القانون – ويقصد هنا نظام القانون العام common law السائد في أمريكا وإنجلترا – هو نتاج الضرورة الوقتية والنظريات الأخلاقية والسياسية السائدة والبديهيات النابعة من السياسة العامة سواء المعلنة أم الراكدة في اللاوعي العام، وكذا التحيزات المسبقة التي يشارك فيها القاضي أمثاله من الناس؛ أي أن القانون يعكس الضرورة والمنفعة الملحّة لمجتمعه.[2]

ومثلما قيل إن سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض إذ أخرجها من دائرة الجدل السفسطائي إلى استكناه الإنسان نفسه؛ اعرف نفسك، اعتبر أوليفر هولمز أبا للواقعية القانونية legal realism إذ أخرج القانون من معبد الشكلانيّة وأطلقه ليتفاعل مع واقع مجتمعه والسياسة والقيم التي تحكمه.

3. أوليفر هولمز:

ولد هولمز في الثامن من شهر مارس عام ١٨٤١ بمدينة بوسطن بولاية ماساشوستس بالولايات المتحدة الأمريكية لعائلة غنية، إذ كان أبوه المؤلف والطبيب المعروف أوليفر ويندل هولمز Oliver Wendell Holmes Sr. وأمه السيدة أميليا لي جاكسون Amelia Lee Jackson التي دعمت حركة مناهضة العبودية the abolitionist movement.[3]

وتمثلت المحطات الرئيسة في حياة هولمز العملية في تخرجه في جامعة هارفارد عام ١٨٦١، ثم المحطة الكبرى ذات الأثر التكويني في شخصيته وهي خدمته في الحرب الأهلية التي نالته فيها الإصابات ثلاث مرات، وخلفت فيه نظرة قاسية متجردة من العاطفة للحياة بوصفها صراعًا لا نهاية له، يرمي بقدر الفرد بين يدي مصير متقلب.[4] وقد انعكست هذه النظرة في واقعية مفرطة تبنت السياسة العامة مع قسوتها، والتي عبر عنها في قضية Buck v. Bell[5] إذ أيد قانون ولاية فرجينيا الذي نص على التعقيم الإجباري لنزلاء مؤسسات الدولة الذين يثبت أن لديهم تاريخًا من الجنون أو البلاهة، ولخّص رأيه قائلًا: "تكفينا ثلاثة أجيال من البلهاء".[6] وفي يناير ١٨٨٢ ارتقى هولمز كرسي Weld Professor of Law الذي صمم من أجله بكلية القانون بجامعة هارفارد. وفي ديسمبر من نفس العام عُيِّن قاضيًا بالمحكمة العليا لولاية ماساشوستس، واستمر في هذا المنصب عشرين عامًا، ثم أصبح رئيس المحكمة في عام ١٨٨٩. وفي عام ١٩٠٢ وصل هولمز إلى المحطة النهائية التاريخية إذ عينه الرئيس ثيودور روزفلت بالمحكمة العليا للولايات المتحدة the United States Supreme Court، واستمر بها حتى سن متقدمة أكثر من غيره ليتقاعد في ١٢ يناير ١٩٣٢ قبيل عيد ميلاده الواحد والتسعين.[7]

وفي أثناء فترة عمله بالمحكمة العليا لمع هولمز كواحد من فقهاء عصره البارزين، وعُرف بالمعارض العظيم the Great Dissenter لنبوغ آرائه المعارضة.[8]

فقد عارض هولمز القرار الصادر في قضية Lochner v. New York (1905) الذي رفع قيد ساعات العمل الستين أسبوعيا عن الخبازين،[9] وقال إن هذا القضاء قد بُني على نظرية اقتصادية لا يأخذ بها الجزء الأكبر من البلاد، وأكد أن الدستور ما كان ليجسد نظرية اقتصادية معينة سواء أكانت النظام الأبوي paternalism والعلاقة الأصيلة التي تربط المواطن بالدولة أم كانت نظرية دعه يعمل دعه يمر laissez-faire، وهو ما اعتبر تحذيرًا أعلنه هولمز من وضع القوانين بواسطة القضاء بناء على أساس سياسي.[10]

وكان مذهب هولمز أن وضع القوانين هو عمل المشرع لا المحاكم وذلك وفق ما يختاره الناس في إطار الالتزام بالدستور، ومن ثم أكد على مكانة حرية التعبير التي لم يقيدها إلا بقيام خطر واضح حال.[11] وقد قعّد هذه الحرية المنصوص عليها في التعديل الأول the First Amendment وكذا الاستثناء الوارد عليها وذلك في قراره الصادر في قضية Schenck v. United States (1919) إذ رفضت المحكمة إلغاء إدانة الناشط المعارض للحرب Charles Schenck والذي اتهم بمخالفة قانون التجسس the Espionage Actبأن وزع منشورات ضد دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى.[12] وقال هولمز مقولته المشهورة في تلك القضية والتي عرف بها الخطر الواضح الحال الذي يقيد حرية التعبير بأنه "مثل الصياح الكاذب داخل مسرح بنشوب حريق".[13]

أما في قضية [14]Abrams v. United States (1919) فقد اتخذ هولمز اتجاهًا مغايرًا لموقفه في القضية الأخيرة، إذ عارض قضاء المحكمة بإدانة عدد من السياسيين الراديكاليين المولودين بروسيا وفقا لقانون التجسس. واعتبر هولمز أن وقائع هذه القضية قد جاءت قاصرة عن بلوغ حد الكفاية لقيام الخطر الحال الواضح الذي يقيد حرية التعبير، وقال إن الخير المنشود يتحقق على نحو أفضل بالتداول الحر للأفكار ذلك أن أفضل اختبار للحقيقة هو مدى قدرتها على حيازة القبول من خلال المنافسة في السوق.[15]

تقاعد هولمز في يناير عام ١٩٣٢ بعد ثلاثين عاما من الخدمة تقريبًا،[16] وكان تقاعده حدثًا وطنيًّا، وخُلِّد بجانب جون مارشال John Marshall ضمن أفضل من خدم في المحكمة العليا.[17] وقد رحل هولمز في السادس من مارس عام ١٩٣٥ في واشنطن قبل ذكرى ميلاده الرابعة والتسعين بيومين فقط ودفن في مقابر أرلينغتون الوطنية.[18]

4. هولمز والواقعية القانونية:

تتشكل الواقعية القانونية عند هولمز في عدد من الصور التي تعكس الواقع التطبيقي للقانون ومن ثم تتشابك فيما بينها، وهي: مفهوم هولمز للقانون، النابع من حيثيات أحكام المحاكم، التي تُستقرأ منها قواعد القانون. فالقانون عند هولمز ما هو إلا "التنبؤات بما ستقضي به المحاكم".[19] لذا فإنه يرى أن أي جهد لتجديد الفكر القانوني يجب أن يستهدف تدقيق تلك التنبؤات وتعميمها بإتقان في نظام مترابط.[20] وهنا نلاحظ وقعاً للشكلانيّة القانونية كما سنوضح لاحقاً.

ومن خلال تعريفه للقانون يثير هولمز مسألة العلاقة بين القانون والأخلاق إذ يذهب إلى أن الواجب القانوني لا يستقل عن النتائج التي ترتب على خرقه ذلك أنه يرى أن الواجب القانوني ما هو إلا التوقع بأنه إذ ارتكب شخص ما أفعالًا معينة أو امتنع عنها سيعاني مغبة فعله أو امتناعه بموجب حكم قضائي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحق القانوني.[21] فتعريف الحق أو الواجب القانوني عند هولمز يتحدد بالنتائج المترتبة على الإخلال بهذا أو ذاك، ويكشف هذه النتائج حكم المحكمة، وتوقع ما تقضي به أحكام المحاكم هو القانون كما يراه هولمز. وتصور هولمز القانون بوصفه محض صنعة تتجسد في حزمة من المبادئ المشرعة داخل حدود معينة.[22] واستعرض من ثم نموذجين: رجل جيد ورجل سيء، وقال إن القانون يستبين من منظور الرجل السيء ذلك أن الرجل الجيد متأثرٌ بضميره، يبحث عن مبررات لأفعاله سواء في إطار القانون أم خارجه، أما الرجل السيء فلا يهتم إلا بالنتائج المادية لأفعاله: دخول السجن أو الالتزام بدفع مبلغ، ولن يعنيه أكان هذا الدفع على سبيل الغرامة أم الضريبة إلا بقدر ما قد يجره عليه التكييف القانوني لإلزامه بالمبلغ من نتائج.[23]فمثلًا، هل يترتب على وصف أدائه المبلغ المحكوم به كعقوبة غرامة حرمانه من مزايا قانونية مستقبلية أم يستوي أثر هذا الوصف مع غيره؟ أي أن هذا الرجل السيء الذي لا يحدوه إلا الأثر المالي لفعله، لا ضميره، ينظر إلى المغبة المالية المتوقعة لفعله بصرف النظر عن أخلاقية هذا الفعل، فإذا كان الفعل الذي يهم به غير مُجرَّم، فلن يجد حرجًا في أن يرتكبه ولو كان فعلًا تنبذه الأخلاق. أما إذا كان التأثيم القانوني يطول هذا الفعل فهذا الشخص السيء يحسب عاقبته: هل سيدخل السجن؟ هل سيُلزم بدفع مال؟ وهذا المال أهو غرامة أم تعويض أم ضريبة؟ وما الذي سيعانيه في المستقبل إذا سجل في صحيفته أنه دفع غرامة أو تعويضا أو ضريبة؟

أما تقييد القانون بالمعايير الأخلاقية التي تتناول الحالة الداخلية لإرادة الشخص، فمن شأنه عند هولمز أن يثير اللبس في اللغة القانونية منذ عهد الرومان فصاعدًا، وضرب على سبيل المثال تعريف العقد بأنه تلاقي إرادات أطرافه، إذ رأى أن من شأن هذا التعريف أن يخرج من نطاق العقد حالات مختلفة بسبب عدم تلاقي إرادات أطرافه وذلك بأن يرمي كل طرف إلى شيء مختلف أو أن يجهل طرف بموافقة الطرف الآخر، لذا يؤسس هولمز العقد على اتفاق مجموعتين من المظاهر الخارجية وليس على اتفاق إرادتين.[24] وللتمييز بين هذين الاتجاهين – اتفاق المظاهر الخارجية في مقابل اتفاق الإرادتين – صدى في الاختلاف بين المذهبين اللاتيني والجرماني إذ تتمسك التقنينات اللاتينية بالإرادة الباطنة أو النفسية للمتعاقد ولا تعتبر التعبير المادي عنها إلا قرينة عليها تقبل إثبات العكس، أما التقنينات الجرمانية فتعتبر التعبير عن الإرادة هو الإرادة ذاتها لأن القانون يهتم بالظواهر الاجتماعية لا النفسية وأن هذا التعبير المادي عن الإرادة هو المعتبر في المعاملات، وقد جمع القانون المدني المصري بين المذهبين في تكوين العقد وتفسيره.[25] وفي هذا إشارة إلى أن الشكلانيّة والواقعية ليستا دائمًا ضدين بل قد تجتمعان أو على الأقل تمد إحداهما الأخرى بتكأة يعمل بها نظامها.

ويتكون القانون عند هولمز من خلال التطبيقات القضائية. فهو يرى أن المحاكم لا تفسر القانون فحسب بل تأتي به من على الرف وتكسبه الفاعلية، فالمحكمة لا تبحث عن المبادئ القانونية الحاكمة للمنازعة المطروحة ثم تصدر حكمها، وإنما الذي يحدث هو العكس، بأن تصدر المحكمة الحكم ثم تبحث عن المبادئ القانونية التي تسبب بها النتيجة التي انتهت إليها في حكمها.[26] فكل مفهوم قانوني وقاعدة قانونية عند المدرسة الواقعية محض وظيفة يستخدمها الحكم القضائي بعيدًا عن الأسئلة المتعلقة بالقيم.[27] بل إن أنظمة القانون ومبادئها وقواعدها ومؤسساتها ومفاهيمها وما يصدر من قرارات – نستطيع أن نتصورها مجرد وظائف بيد السلوك الإنساني.[28]والأخطر من هذا أنه انتهى إلى أن الأحكام القضائية هي في حقيقتها انعكاسٌ للقوى الاقتصادية السائدة في المجتمع، ولموقف الطبقة الاقتصادية ذات شريحة الدخل التي ينتمي إليها القضاة تجاه المسائل المجتمعية.[29]

ويجد هذا النظر صدى في النظام القضائي المصري. فرغم انتماء القانون المصري لعائلة القوانين اللاتينية كالقانون الفرنسي مع تأثر متفاوت بالشريعة الإسلامية الغراء والقانون الجرماني ما مفاده طغيان الشكلانيّة القانونية formalism فإن الواقعية القانونية legal realism تفرض نفسها على العمل القضائي في أروقة المحاكم والنيابات. فمثلًا قد يتأسس حكم الإدانة في جريمة الضرب بدرجاته على أقوال المجني عليه والتقرير الطبي الذي يبين إصابته وتحريات الشرطة. وفي المقابل قد تسبب البراءة عن الجريمة ذاتها على أن أقوال المجني عليه قد جاءت مرسلة لا يساندها دليل، وأن التقرير الطبي دليل على الإصابة وليس دليلاً على من أحدث تلك الإصابة، وأن تحريات الشرطة هي مجرد رأي لصاحبها يحتمل الصدق والكذب كما ذهبت محكمة النقض المصرية. فالمرجعية في المسائل الجنائية في الأساس هي عقيدة القاضي واقتناعه الذي قد يتأثر بواقع المجتمع من اتخاذ الاتهام بالضرب وافتعال الإصابات وسيلة للكيد. كذلك رغم تجريم القانون المصري للسب والقذف فإن الدعوى الجنائية لا ترفع في شأنهما إلا نادرًا أو إذا تطورت الجريمة إلى سب موظف عام بسبب أو في أثناء عمله، أما وقائع السب والقذف اليومية في الشوارع فتحفظها النيابة العامة حفظًا إداريًّا بسبب ضخامة عدد البلاغات بها وجريان السب والقذف على الألسنة في الحياة اليومية. وفي قضاء الأسرة تأخذ المحاكم في حسبانها سبل الكيد بين الأزواج وتقدر النفقات ليس فقط على أساس مفردات راتب الزوج بل أيضًا تضع في اعتبارها التزاماته وسيل المطالبات المالية التي تدخرها الزوجة أو المطلقة لترفع بها دعاوى أخرى، أو في المقابل تضع المحاكم في اعتبارها ما قد يخفيه الزوج من مصادر دخل أو علاوات على الراتب قد لا تدرج في المفردات.

ثم يأتي دور الاستقراء والاستنتاج عند هولمز في تكوين المبادئ القانونية ذلك أن قراءة مجموع الأحكام القضائية من شأنه أن يكشف عن مبادئ لها فاعلية مستمرة.[35] وهنا تقوم الشكلانيّة القانونية من تحت الرماد لتحاول فرض نفسها وتزاحم الواقعية القانونية. فإذا كانت الواقعية قد فتحت المجال للأحكام القضائية لتشكيل قانون على مثال مجتمعه فيعكس صورته وواقعه فإن الشكلانيّة متسربلة بالاستنباط تقفز إلى المشهد في صورة مبادئ قانونية أعطاها تكرار التطبيق شيئا من الهيمنة والسمو. ومن ناحية أخرى لا يني الواقع عن محاولة التسرب وطبع أثره داخل جسد البناء القانوني الشكلانيّ. فعلى سبيل المثال: صدر القانون المدني المصري الحالي عام ١٩٤٨ مستقيا أحكامه في الأساس مما رآه صالحًا في التقنين القديم ومن أحكام القضاء المصري وما أقره من مبادئ قانونية خلال سبعين عامًا في ظل التقنين القديم، وقد جاوزت أحكام القضاء نصف نصوص التقنين الجديد.[36] وهذا يدل على أنّ الواقعية القانونية -متمثلة في أحكام المحاكم التي طبقت القانون المدني القديم على واقع المجتمع في زمنه ووضعت مبادئ قانونية- قد لعبت دورًا رئيسًا في بناء وتشكيل القانون المدني الجديد في إطار نظام قانوني لاتيني مذهبه الشكلانيّة.

ومفاد الملاحظتين الأخيرتين أنه لا يوجد نظام قانوني واقعي أو شكلانيّ خالص بل قد يعتنق نظام قانوني ما أحد المذهبين وتحكمه أدوات المذهب، لكن يبقى للمذهب الآخر أثره، فالشكلانيّة القانونية مهما طغت لا تمنع الواقع من أن يلقي ظلاله على أحكام المحاكم، وكذلك مهما غلبت الواقعية القانونية يبقى للشكلانيّة أثر في تصاعد عدد من المبادئ القانونية وهيمنتها محاولة نسج نظام قانوني مترابط.

 

[1] Felix S. Cohen, Transcendental Nonsense and the Functional Approach, 35 Columbia Law Review 809–849 (1935).

[2] Edmund Ursin, Holmes, Cardozo, and the Legal Realists: Early Incarnations of Legal Pragmatism and Enterprise Liability, San Diego Law Review, Vol. 50, Summer 2013, San Diego Legal Studies Paper No. 14-144, at page 551. Available at: Holmes, Cardozo, and the Legal Realists: Early Incarnations of Legal Pragmatism and Enterprise Liability by Edmund Ursin :: SSRN. Last visited: 13th of June 2024.

[4] Oliver Wendell Holmes (history.com), Original Published Date: November 9. 2009. Last Updated on August 21, 2018. Last

visited on June 10, 2024.

[5] Buck v. Bell, 274 U.S. 200 (1927).

[8] المرجع السابق

[9] المرجع السابق في بند ٣

[10] المرجع السابق في بند ٢

[11] المرجع السابق في بند ٧

[12] Oliver Wendell Holmes Jr. - Quotes, Common Law & Education (biography.com), Original Published date: April 2, 2014. Last updated: May 17, 2021. Last visited: 10th of July 2024.

[13] Schenck v. United States, 249 U.S. 47 (1919).

[14] Abrams v. United States, 250 U.S. 616 (1919).

[15] المرجع السابق في بند ٣

[16] المرجع السابق

[19] المرجع السابق في البند الأول – ص ٨٢٨

[20] Oliver Wendell Homes, The Path of the Law, 10 Harvard Law Review, 457-478 (1897), at 457, 458.

[21] المرجع السابق – ص ٤٥٨

[22] المرجع السابق – ص ٤٥٩

[23] المرجع السابق - ص ٤٥٩ - ٤٦١

[24] المرجع السابق – ص ٤٦٣ – ٤٦٤

[25] أ.د/ عبد الرزاق السنهوري – الوسيط في شرح القانون المدني – دار الشروق- القاهرة – 2010 – ج١ – ص ٧٤-٧٦

[26] Mikhail, John, Holmes, Legal Realism, and Experimental Jurisprudence at page no. 2-3 (March 14, 2024). The Cambridge Handbook of Experimental Jurisprudence (forthcoming), Available at SSRN: Holmes, Legal Realism, and Experimental Jurisprudence by John Mikhail :: SSRN.

[27] فيليكس كوهين - المرجع السابق في بند ١ – ص ٨٤١

[28] المرجع السابق – ص ٨٤٥

[29] المرجع السابق – ص ٨٤٥

[30] المرجع السابق في بند ٢٦

[31] المرجع السابق

[32] المرجع السابق في بند ٢٠ – ص ٤٦٥ و٤٦٦

[33] المرجع السابق في بند ٧

[34] المرجع السابق

[35] المرجع السابق في بند ٢٦

[36] أ.د عبد الرزاق السنهوري – المرجع السابق في بند ٢٦ – ص ٢٩ هامش وصـ ٦٥